د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ولا يكاد يقف صوت الشاب المراهق (الكاتب) على النماذج السالفة، فهناك نماذج أخرى يظهر فيها بصورة أكثر وضوحاً؛ حين يقارن الزمن الآني بالزمن الماضي. وهي مقارنات تكثر في الحديث عن الجيل الغابر وجيل الشاب الحاضر، حيث يتردد مثل قوله: «هذا ما أنت فيه اليوم وأقرانك، وهذا ما كان عليه أبوك وأقرانه»، أو قوله : «أن أقارن بين ما توفر فيه من إمكانات، وبين الإمكانات التي كانت في زمن مضى، قبل خمسين عاماً، وأنا هذه الأيام مغرم بالمقارنة»، فهذه المقارنات تتيح لصوت الشاب القديم أن يظهر بصورة الزمن القديم الذي يمثله وعاش عليه، بوصفه حاضراً في وعي المتحدث.
وهي مقارنات تلقي بظلالها على الكتاب، بل ربما نقول: إنها المنهج الذي اختاره الكاتب في بناء كتابه، والرؤية التي انطلق منها للنظر إلى القديم، والحديث، وقد جاءت في العنوان عنواناً جانبياً يشرح العنوان الأصلي، فحين يتحدث عن «الثلاجة» بوصفها أداة لحفظ ماء الشرب، وتبريده، يتحدث عن «الزير» بوصفه أيضاً وسيلة لحفظ الماء وتبريده في زمن خلا، ولأن الحديث يقوم على «المقارنة»، ولأنه حفي مغرم بها، فإننا لا نعلم هل الحديث عن «الثلاجة» استدعى الحديث عن الزير أم العكس، بيد أننا نعلم أن حضور القديم في مقابل الجديد دليل على قيمته الغالية في نفسه، وتمسكه به، وسيطرته على وعيه، ولأن معرفة الكاتب بالقديم تعود إلى أيام شبابه، فإن الصوت الذي يمثله في نفسه هو ذلك الشاب الذي عاش تلك الحقبة، وليس صوت الشيخ الذي يكلم الابن، مما يدل على حضوره في ذهنه.
ولذا لا نستغرب إذا وجدنا صورة الأشياء القديمة في النص هي صورتها عند ذلك الشاب، وليست صورتها في ذهن الشيخ المتحدث الذي لم يعايشها شديد المعايشة، وهذا يبدو من وصفه للأشياء القديمة، فهو في الغالب يصف وصف الخارج عنها، الذي لم يعايشها المعايشة الكبيرة، ولا تتصل بوجدانه، يبدو ذلك في وصفه للحطاب وعمله، وللجمل وأخلاقه، وهيئته، وجريه، فهي إلى عرض المعلومات المختزنة أقرب منها إلى الأحاسيس المترسبة في وجدانه جراء تجارب خاصة لا تزال محفورة في وعيه.
يبدو الفرق واضحا حين نوازنها بحكاية «الكرة»، وموقفهم منها حين كانوا يتملصون من الذهاب إلى الملعب، يمنحون صاحبهم «الآيسكريم» مقابل أن يحل محل أحدهم في الذهاب إلى لعب «الكرة». فموقف «الشاب» القديم الذي لا يبدو أنه مبرر في نظر الشاب المعاصر من لعب الكرة، اللعبة الأكثر شهرة، وشعبية في عالم اليوم، يأتي مسوغاً بحجج كثيرة يوردها بوجوه مختلفة، فالملعب بعيد، وهو ليس -أيضاً- ملعباً على وجه الحقيقة ولكنه أرض فضاء، وكأنه يحاول أن يقنع المتلقي بسبب عدم إقبالهم على الذهاب، بناء على أن هذه الأسباب قد تكون مقبولة لديه، ثم يأتي إلى الموانع الأخرى التي تمنعهم شخصياً من الذهاب، وتقلل من إقبالهم على الكرة، وهي أنهم يستحون من لبس الرياضة، وهذا عند الابن المعاصر، من العذر الذي هو أقبح من الفعل، إذا علم أنه يفضل هذا اللباس وأشكاله على سواه من أنواع اللباس، ثم بعد المكان، وأخيراً أنها تحرمهم من لعب أخرى في الحي، وهذا الأخير قد يكون مفهوما لو لم يكن في مقابل لعبة الكرة الأثيرة لدى الشباب.
هذه الحجج المتتابعة التي يسوقها الكاتب في بيان موقف الشاب الغابر من لعب الكرة، يكشف الصلة الوثيقة بينه وبين هذه الحادثة، حيث إنه واحد ممن قام بالفعل، ومقدار ما ترتبط بشخصيته في ذلك الزمن إذ كان مع أصحابه لا يذهبون إلى تلك اللعبة. وفي قدرتهم على عدم الذهاب دليل على أنه من شباب «الصفوة» «المتأنقين» القادرين على دفع العوض (الآيسكريم) للبقاء، والاستمتاع بألعاب أخرى، وهو ما أشار إليه بقوله: «ولكنه وعدد من الزملاء لا يذهبون». أما الذين لا يستطيعون أن يدفعوا فليس لهم بد من الذهاب، والتخلي عن اللعب في الحي.
هذه النخبوية التي يمثلها الشاب في زمنه الماضي، تعزز المسؤولية الاجتماعية بوصفه أحد النخبة القائدة في المدرسة التي ينبغي أن تكون ذات حس طليعي يقدر ما سيكون عليه المستقبل، ولا تنساق كما ينساق القطيع، وهو ما يعزز مقدار ما يشعر به من حرج حيال ذلك الموقف، حرجاً لا يملك معه تسويغ ما حدث مهما ساق من حجج، فيعيده إلى اختلاف الزمان، ويعده دليلاً على الفارق الكبير بين الزمنين حين يقول في ختام الحكاية: «أرأيت الفارق بين زمننا وزمنك».