د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يزال كثير من نقادنا العرب مهووساً باستجلاب النظريات النقدية الغربية الحديثة، غافلاً عن استحضار ثقافات تلك الشعوب وآدابها، ومن غير نظر إلى الثقافة العربية الإسلامية التي كان لها أثر كبير في الفن والفكر والأدب في الحياة العربية، فاستدعى هؤلاء الواقعية والماركسية، والفرويدية، والأسطورية إلى عصرِ ما بعدِ البنيويةِ, والتفكيكية والأسلوبية، إلى أن انتهوا عند نظرية النقد الثقافي، التي لم تكتمل ملامحها في الفكر النقدي العربي المعاصر حتى الآن.
وكان من حسن الحظ أن قُيِّض لنقدنا العربي المعاصر أدباء ونقاد وقفوا موقف المرتاب من هذه النظريات، ولعل من أبرزهم الدكتور وهب أحمد رومية الذي حاول في كتابه (شعرُنا القديم والنقدُ الجديد) تأصيل منهج عربي في قراءة الشعر العربي القديم، ينطلق من الوعي الشمولي للحياة التي شكلت هذا الأدب ولوظيفة الشعر، مع الأخذ بالأدوات النقدية الحديثة، دون أن تكون هذه الأدوات مقصودة لذاتها، كاشفاً عن بعض ملامح النقد العربي المعاصر، ومفصحاً عن موقفه من النقد الأسطوري للشعر العربي القديم، وخاصةً الجاهلي منه.
ورغبة في وضع المتلقي أمام الأسس التي يتكئ عليها في معالجاته يذكر المؤلف في مقدمة الكتاب أنه يحاول اختبار فرضين علميين، يتصل أحدهما بالنقد العربي المعاصر، والآخر بالشعر العربي القديم. أما الفرض الأول فيقوم على اعتقاد بأن نقدنا المعاصر نقدٌ مأزوم على الرغم من الضجيج الذي يرافقه خطوة خطوة. لقد أصابه العجز عن مواجهة المذاهب النقدية العالمية المعاصرة؛ فاستسلم لها، ولكنه عدَّ نفسه - مخادعةً للذات وتضليلاً لها - جزءاً من تلك المذاهب؛ فامتلأ بروح النخبة، وزها بشعور الاستعلاء الارستقراطي، وكتب النقاد فيه نقداً يحار فيه المتلقي؛ فلا يستطيع أن يرده إلى علم منضبط الأصول والإجراءات، ولا يستطيع أن يرده إلى مذهب نقدي بعينه، وانقطعت الصلة بين الموقف النقدي والموقف الاجتماعي، وكان هذا الانقطاع آية التخبط والاضطراب، وشاهد صدق على المآل الكئيب الذي آل إليه النقد الجديد.
وظهر هذا الأمر مصحوباً بضوضاء تصم الآذان في نقد الحداثة الذي تناول شعر الحداثة، وامتدَّ إلى شعرنا القديم وقد فارقته مقادير من ضوضائه، لكن انحرافه في طبيعة فهم الشعر ووظيفة النقد لم يفارقه، وظهر ذلك جلياً في المذهب الأسطوري الذي تناول شعرنا القديم بالتحليل والتفسير، إنه نقدٌ مأزومٌ سليل ثقافةٍ مأزومة، امتدَّت إليها أزمة الحياة العربية المعاصرة، وانتهت بها إلى أن تكون جزءاً من الأزمة بدلاً من أن تكون عاملاً حيوياً يساعد على النهوض بالأمة، والتغلب على أزمتها، والتحرر منها.
ويقوم الفرض الثاني على اعتقاد أنَّ شعرنا القديم شعر غامض وبوَّاح في آن، خلافاً لما شاع في أوساط أكثر الدارسين، ومصدر غموضه ليس ألفاظه وتراكيبه، بل موضوعاته وأغراضه، أو رموزه بعبارة أدق؛ لذا فهو صالح - ككل شعر عظيم - لقراءاتٍ متعددة، تفك رموزه؛ ليبوح بثرائه الباهر، ولكن هذه القراءات مشروطة بشروط شتى، تعصمها من أن تكون لغواً أو هذياناً.
ويقسم المؤلف كتابه إلى بابين، جاء الأول منهما (الحداثة المموهة) لاختبار الفرض العلمي الأول على مستوى النظرية والتطبيق. ويقع في فصلين، يحاول في الأول (العلاقة بين الشعر والنقد) اختبار هذا الفرض على مستوى نظري صرف في ضوء تحديد نوع الأزمة بينهما: أهي أزمة مجتمع أم أزمة ثقافة أم أزمة نقد؟ كما يحاول أن يكشف عن أهمية (موقف الناقد) لا من أدواته وحدها، بل من قضايا الأدب والمجتمع، ويثير مشكلة الثقة بالذات الفردية والاجتماعية من خلال مناقشته فكرة (الانحياز المنهجي) أو شطط الاستعارة من الآخر.
ويحاول في الفصل الثاني تقديم رؤية تقويمية لموقف المدرسة الأسطورية في نقد شعرنا القديم، لاختبار الفرض العلمي الأول على المستوى التطبيقي، متخذاً من هذا النقد الأسطوري نموذجاً للحداثة المموهة، وينتهي هذا الباب بتقويم شامل لهذا المذهب النقدي، وأبرز عيوبه، وما اعترى تطبيقه من اضطراب في فهمه، وارتداد به إلى مفهوم سطحي زاده سوءاً، ومن غموض ماهية المادة التي يعالجها هؤلاء الدارسون في أذهان بعضهم.
ويُقدِّم الباب الثاني محاولات جديدة في تفسير شعرنا القديم، لاختبار الفرض العلمي الثاني، ممهداً بتناول مسألة الأغراض الشعرية ورمزية بعضها كالغزل وأطلال الظعائن ولوحة الصيد وغيرها، ويكشف عن القصور الذي تورطت به أجيال من الباحثين حين فسروا هذا الشعر تفسيراً سطحياً، فقصروا حديثهم على دلالته التاريخية النسبية، وأغفلوا دلالته الإنسانية الخالدة، التي لا تكشفها إلا المدارسة المتأنية الصابرة التي تمتلك تصوراً دقيقاً لوظيفة الأدب وطبيعته في كل عصر.
وفي الفصل الأول من هذا الباب يعالج المؤلف الذات في القصيدة العربية القديمة، ويقدم محاولات جديدة في دراسة عدد من النصوص الكاشفة عن هذه الرؤية لعدد من الشعراء كامرئ القيس وعلقمة الفحل وغيرهما. ويعالج في الثاني رؤية الكون في القصيدة العربية القديمة، ويقدم محاولات جديدة في دراسة عدد من هذه النصوص الكاشفة عن هذه الرؤية؛ كالمسيب بن علس والشماخ والنابغة وعبيد الأبرص وغيرهم.
الكتاب جدير بالقراءة والاطلاع والمدارسة، وقد بذل المؤلف فيه جهداً كبيراً لتأصيل منهج نقدي عربي، وأن يربط بين الإبداع وتاريخ الحضارة، مؤكداً أن الخطاب النقدي يفترض أن يكون خطاباً تصورياً، تسري فيه روح الشعر، وتربطه بالفن صلة رحم واشجة، منطلقاً من معرفة واسعة للشعر العربي، قديمه وحديثه، وشاعرية عالية قادرة على الدهشة الحية والتعاطف العميق والكشف الباهر، وهو من مطبوعات (عالم المعرفة) التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، ويقع في أكثر من 370 صفحة من الحجم الصغير.