د. صالح بن سعد اللحيدان
ليس يصلح العلم ليتم التجديد والسبق النوعي الاجتهادي المكين بحال ما ما لم يساير هذا بعمق ودراية النقد ذات النقد المقوم للأعمال.
لست أرمي نافلات القول إنني أريد بقولي هذا دراسة الأعمال العلمية أو عرضها أو قل دراسة الأعمال الثقافية، كلا ليس هذا ما أريد، ولكن إنما أردت من ذلك النقد ذاته الذي يدفع بعجلة العلم وسواه إلى بناء العقل وتصحيح مسار ورؤية القلب ومعالجة العاطفة أن تزل أو تميل.
ونحن لو سبرنا مسار العلم اليوم من تحقيق أو دراسة أو شرح أو طرح للآراء ولو سبرنا كذلك الثقافة بوجه عام لوجدنا بعد نظر وتمعناً وتأصيلاً ما لم يكن بالحسبان أن يكون.
لاجرم لوجدنا سيلاً متدفقاً من النقولات وكثرة الهوامش وتكرار الرأي ولكن بتنوع من الأساليب حاد الذكاء مما يظن معه المطلع أنه يطالع جديداً فهو إذاً يستفيد.
إذاً هناك مشكلة اليوم يحتاجها العالم كما يحتاجها المثقف الذي هو من وجه قريب رديف للعالم، المشكلة هي غياب النقد، وأما وجود دراسة وعرض وتقرير وشرح الأعمال المطروحة فصنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد.
ولهذا حسب تتبعي وسبري للساحة العلمية والثقافية منذ قرابة مئة عام أو تزيد لم يتم إضافة نوعية غير مسبوقة .
نعم هناك جرأة في الطرح وهناك كثرة اطلاع وكثرة كتب وهناك تنوع في دور النشر كما أن هناك مناقشات، لكن ليس يتمخض عن هذا شيء.
فلعلك تجد ثلاث رسائل دكتوراة أو ماجستير في علم الحديث مثلاً أو الفقه أو الأصول أو علم الاجتماع أو أساسيات دراسة الأعمال فيها من الآراء والشروحات والمراجع ما فيها، فسوف تجد هناك تشابهاً بينها وإن اختلفت المواضيع لكنك لن تجد إضافة تجديدية.
انظر إلى ساحة الثقافة التي فيها المثقفون يعدون بالمئات ولاسيما كتاب القصة أو الرواية، إنما ذلك آراء وخواطر يتم توظيفها على أساس النقاش والحوار ولكنها تعود أخيراً إلى حقيقة الخاطرة والمذكرات شاء من شاء وأراد من أراد أو لم يرد، هذا هو الواقع دون ريب.
فلو أنك تعمقت بعقلية ناقدة إلى ما بين السطور وكررت القراءة بتجرد وشفافية وعدل فإنك واجد ما ليس يقوم.
والدراسات العلمية الشرعية والبحوث المنتشرة من خلال الكتب والمجلات المحكمة انتشرت انتشاراً واسعاً ويرجى منها خير، ولكنها ليست على الطريق الذي يريده المطلع عليها الذي ينشد الجديد غير المسبوق.
سوف أذكر شيئاً مهماً في هذا السبيل قد تكون سمعته أو قرأته أو نقل إليك لكنه يوحي بعجلة الطرح واختصار ما لا يجب اختصاره خاصة في هذا الحين، وسوف تجد ما أذكره لك على صفة يصعب معها النقولات الجليلة ليكون السامع والمطلع قد شرب ماءً صافياً فارتوى فهو في صحة جيدة في حال مستديم وليس يريم.
وإذا كنت أعتب على العلماء اليوم أياً كانوا وعلى المثقفين كذلك فإنما قصدت تحرير العقل من التكرار والنقل والاختصار لتحصل مسألة التجديد في جيل وفي أجيال.
فقط سوف أذكر أدلة مدونة ما كان يجب أن تكون لولا العجلة وحب الاختصار، ولنأخذ أمثلة على ذلك مع بعض الشواهد فيما يخص العلم وآثاره المتكي عليها، ولأجعل هذا متسلسلاً ومرقماً حتى يتضح سبيل المنهج على قويم من سبيل مبين.
خذ مثلاً هذه الآراء، قال أحدهم:
1 / أولاً: (هذا رأي الجمهور) ثم سكت المتكلم،
فأين الدليل؟
وهل هو صحيح؟
وأي جمهور أراد؟ الفقهاء أم المحدثون أم المفسرون أم سواهم.
2/ ثانياً: (أصح القولين في المسألة).
3/ ثالثاً: (هذا هو الراجح).
من رجح؟
وأين الدليل؟ وهل هو صحيح؟
4/ رابعاً: (هذا ما قال به الأكثر).
5/ خامساً: (هذا هو الصحيح فيما يظهر وذكره عامة العلماء).
6/ سادساً: (لا بأس أن تصلي في بيتك فالمسألة فيها خلاف).
وهذا السادس استدل صاحبه به بحديث صلاة الجماعة تفضل عن صلاة الفذ بسبع وعشرين أو خمس وعشرين درجة.
ومن نافلة القول أن هذا الحديث قد تم نسخه على وجه واضح بين بحديث (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين رجلين من المرض حتى يقام في الصف)، ونسخه كذلك (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك صلاة الجماعة لا حضراً ولا سفراً.
ولا شك أن العقل السليم يوافق النص الصحيح جرت على هذا العقول والأسفار خلال العهود المتطاولة.
ومن هذا الباب بعد هذا الإيجاز بالأمثلة ذكر هذه الآثار التي يتكرر إيرادها عند عامة العلماء وخطباء الجمع وبعض الدعاة ولعل بعض المثقفين يستعرضه، أذكرها لعلها تدعو لقراءة المطولات من كتب الجرح والتعديل وكتب الأحاديث الضعيفة والموضوعة لعل هذا يجدي ويفيد، وإنما هي إشارة مني تدعو العلماء والباحثين والمثقفين إلى شدة التدبر والتوقي في حال الاستشهاد بالآثار.
أذكر الآن ما يلي من هذه الآثار:
1- (إذا رأيتم الهلال فقولوا اللهم أهله علينا بالأمن والأمان)...الحديث، هذا رواه الترمذي لكن سنده ضعيف.
2- (اختلاف أمتي رحمة)، وهذا الأثر يتداوله كثير من الكتاب والأدباء ولعل بعض الدعاة يقع فيه.
وهو ضعيف سنداً ومتناً.
3- (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، هذا رواه أحمد بن محمد بن حنبل، وهو ضعيف.
4- (لو كان الفقر رجلاً لقتلته)، هذا من كلام علي رضي الله عنه ولم يصح عنه بسند قوي.
5- حديث الذباب (أنه مر رجلان يعبدان صنماً فقيل لأحدهما قرب، قال وما أقرب، قالوا ولو ذباباً، ففعل فتركوه، وقالوا للآخر: قرب، قال لا، فقتلوه)، أو كما ورد. وهذا الأثر ضعيف جداً لكنه متداول بل وجدت من صححه وليس له سند يقوم عليه.
فكلها كما ترى ضعيفة، وإذا ضعف السند ضعف المتن، ولكن مع قلة القراءة اليوم فقد يأخذ كثير من الناس بها وهم يعملون.
وهذا ليس بحسن في باب سياسة العبادات والمعاملات.
ولقد يؤخذ النووي مثلاً في شرحه لصحيح مسلم، وقد يؤخذ كذلك العيني في شرحه للبخاري يؤخذ هذان العالمان مثلين على الشرح والبيان مع الدليل ومعالجة مسألة الاختلاف والراجح والمرجوح والصحيح والضعيف، ولا يقال أن الفتوى مثلاً أو الإجابات تحتاج إلى الاختصار، قد يكون هذا قبل خمسين سنة لكن اليوم يحتاج الناس إلى الشرح ومعالجة الآثار والأقوال والآراء بتأصيل وتقعيد بدليل صحيح وتعليل عقلي سليم،
لقد كنت آخذ من خلال مناقشتي لبعض الرسائل العليا في الدكتوراه والماجستير آخذ على الباحثين كثرة الاستطراد وكثرة التهميش أسفل الصفحات، كذلك آخذ عليهم عدم البحث بأسلوب علمي رصين إنما هو الإنشاء، ولقد استفاد كثير منهم خاصة بعد أخذ الدرجة والإذن بطباعة الرسالة.
ولا يزال الحال تحتاج إلى أن يخرج في هذا الحين تجديد يتحرى التأصيل والتقعيد والاتكاء على قاعدة صلبة من علم رصين ودليل سليم سنداً ومتناً.
قد يكون في كلامي النقدي هذا شيء من القسوة لكن الموجب لهذا هو ما أراه من كثرة الأطروحات التي تزفها لنا دور النشر والمراكز العلمية والهيئات العلمية، وكذلك دور النشر الثقافية التي تحتاج إلى التأني وسعة البال حتى يسلم العلم من الخطاب المباشر، ذلك الخطاب العجول، وحتى تسلم الثقافة خاصة الرواية والقصة من طرح الآراء على أنها رواية أو قصة.
لست أشك أن أحداً لا يخالجه شعور أني صادق في هذا وإلا لتركت هذا إلى غيره، لكن لعل في كلامي هذا ما يوجب إعادة النظر في المؤلفات وبعض الرسائل العلمية وبعض الإجابات المدونة والمسجلة لعله تمخض منها إعادة النظر على أساس التجديد النوعي بإعادة ما تم طرحه لغربلته ليظهر جديداً مفيداً في آن، لعل المطلع عليه فيما بعد يجد شيئاً لم يجده من قبل.