فيصل أكرم
(يا ليلة ما جاني الغالي
ودقّ عليّا الباب
اتبسّمت أنا زي العادة
وقلت يا باب كدّاب)!
تلك الأغاني، الشعبية، أعود إليها بالتأمّل كلما مللتُ من المحاولات الفاشلة لاستخلاص أي جدوى من تأمّلات أخرى.. القصيدة تعطينا أكثر، ولكنّ الأغنية تأخذنا إلى الأبعد.. تأخذنا إلى القصائد والموسيقى، الحب والندم، الحزن والتمني، المفاجأة بأن أعضاء الجسد تنسجم وكأنها كلها آذان تطرب!
المقطع أعلاه من أغنية للفنان الراحل محمد رشدي، الشعبية، التي أجد فيها ما لم يجده هو نفسه – رحمه الله – وأعني (القيمة).
يقول الكاتب المصري سعيد الشحات: (يقطع الفنان محمد رشدي بأن المنافسة في الغناء، التي اشتعلت بينه وبين عبد الحليم حافظ، كانت لأجل الفن فقط. وفي مذكراته التي سجلتها معه يذكر كلمة تحمل دلالات عميقة، يقول: كنت الأول في اللون الشعبي، لكن عبد الحليم كان الأول في القيمة).
أتصوّر أن هذه الكلمة تحمل استفهامات عميقة أكثر من الدلالات، فهل (القيمة) المقصودة للون الفن نفسه، الشعبي أقل قيمة من غير الشعبي؟ أم أغنية هذا الفنان أقل قيمة من أغنية منافسه؟!
لا شك أن الراحل عبد الحليم حافظ، رحمه الله، حقق القيمة الأعلى لفن الغناء العربي، ولا يصحّ أن نصفه بالأول أو الثالث، فالقيمة الأعلى قمّة تتسع لكل الناجحين الكبار.. غير أن اللون نفسه يتسع كذلك لقيمة أعلى وقيمة أقلّ!
بمعنى: عندما نسمع الآن رائعة من روائع محمد رشدي ننسب قيمتها إليه لأنه أبدع في أدائها، على عكس أغنيات شعبية كثيرة هابطة تجعلنا – للأسف – ننسب القيمة الهابطة إلى الفن الشعبي كله!
وهذا بالضبط ما حدث للشعر العربي، فقد وُلد في القمّة الأعلى من اللغة حتى صارت اللغة تكوّن نفسها وتستنبط بعضها وتقنن أصولها وقواعدها على الاستدلال والاستشهاد بنماذج من الشعر العربي، ثم انتبهنا إلى شعر عربي آخر لم نستطع تحديد هويته الأولى منذ قرون حتى الآن، واختلف حولها المؤرخون للأدب.. وأعني (الشعر الشعبي) فقد أخذ مكانه وانتشر بين الناس بدعم (الأغنية – شعبية كانت أو طربية) حتى صرنا نعرّف الشعر العربي بإضافة صفة من اثنتين (فصيح أو شعبي) وكان الفصيح محققاً القيمة الأعلى ثم هبط به الدخلاء عليه من غير المتقنين للغة أساساً فقيل: (هبط الشعر العربي) وقيل (الشعر الشعبي تفوّق)!
المسألة مؤلمة ومخجلة في الوقت نفسه، ولم يعد بيد الشعراء المبدعين حقيقة سوى التنازل بخجل عن التفاخر بصفة (شاعر عربي – فصيح) وهنا تكمن المأساة. والمأساة حديثها يطول، ويتطلب حدّة لستُ مستعداً لها الآن؛ لذا سأعود بالحديث نحو الأغنية:
قد أتفق على مصطلح الأغنية الشعبية، من حيث الكلمات والآلات الموسيقية واللحن والأداء طبعاً، وطبعاً المقابل المغاير لها تعددت مسمياته.. من شبابي إلى استعراضي إلى طربي؛ غير أنني أتحفظ على مصطلح الأغنية (الطربية) بوصفه المقابل الأعلى لما نعرّفه بالأغنية (الشعبية)؛ فبرأيي: كل أغنية لا بد أن تكون طربية لتكون رائعة أو حتى جميلة، وما لم تكن كذلك فهي قد تكون رقصاً أو صراخاً أو نواحاً أو أي شيء إلا الأغنية!
في كتابي (طرب.. طرب) الصادر قبل سنوات في القاهرة، تماهيتُ بمقالاته مع أغنيات (شعبية) تعجَّب َ بعضُ الأدباء الذين كتبوا عنه من التسمية والمحتوى.. ولعلي بهذه المقالة أختصر شيئاً من رؤيتي محاولاً إيضاحها قدر استطاعتي؛ وأختم بمقطع من إحدى أغنيات عبد الحليم حافظ، عالية القيمة:
(نعم يا حبيبي نعم
أنا بين شفايفك نغم
وأيامي قبلك ندم
وأيامي بعدك عدم
يا حبيبي...)