د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
الأصل أن الفعل يكون مبنيًّا للفاعل إن لازمه الفاعلَ ظاهرًا أو مضمرًا، ثمّ إنَّ حاجة الإبلاغ(1) قد تقتضي حذف الفاعل، فيُحوّل الفعلُ تحويلًا قياسيًّا عن بنيته إلى بنية أخرى(2)، ويلازمه حينئذٍ المفعول به ملازمة الفاعل، فهو المبنيّ للمفعول، ومرفوعه ما سمّاه ابن مالك (نائب الفاعل)(3)، ويكون للمفعول به (النائب) من الأحكام التركيبية ما للفاعل (المنوب عنه) من شروط إعرابه فيرفع، ومطابقته جنسًا وتأخره رتبةً وذكرًا، ويكون الفعل بهذا مبنيًّا للمفعول بعد أن كان مبنيًّا للفاعل، وإنما يكون هذا البناء لهذه الأفعال التي تعدت فاعلَها فنصبت مفعولًا به؛ وأما الأفعال اللازمة فاعلَها التي لا تعمل إلا في غير المفعول به كالمصدر أو الظرف أو ما جُرّ بحرف جرّ(4)، فإنها إذا أريد لها أن يحذف فاعلها وأن تغيّر بنيتها لازمت أحد هذه الثلاثة فصار نائبُ الفاعل المصدرَ أو الظرفَ أو الجارَّ والمجرور، وِفاق ما يقتضيه تحقيق الغرض. وبالجملة ما يقام مقام الفاعل فينوب عنه هو: المفعول به والمجرور والمصدر والظرف الزماني والمكاني(5)، وعلى الرغم من كون المفعول به أَولاها في النيابة كانت المفعولات الأخرى نظيرة للمفعول به، ولم أصادف خلاف هذا في كتب التراث حتى نبّهني العالم النحوي المحقق الأستاذ الدكتور بهاء الدين عبدالوهاب عبدالرحمن إلى ما ذكره الشاطبي في شرحه الألفية، وهو مذهب فيه تعميم لقاعدة بناء الفعل للمفعول، خلاصتها أن النائب عن الفاعل هو المفعول به، وأما سوى ذلك فمجعولة بمثابة المفعول به؛ كأنما صيّرت مفعولات بها ليمكن أن يبنى الفعل لها كما بني للمفعول به.
قال الشاطبي في أولوية نيابة المفعول به «فقال [ابن مالك]: «ولا ينوب بعض هذي» إلى آخره، يعني أنّ واحدًا من هذه الأشياء الثلاثة لا تصحُّ نيابته عن الفاعل عند حضور المفعول به ملفوظًا، فلا تقول في: أغنيتُ زيدًا عن السؤال: أُغنِيَ عن السؤالِ زيدًا. ولا في: ضَرَبتُ مكانَكَ زيدًا: ضُرِبَ مكانُك زيدًا، ولا في: ضربتُ زيدًا ضربًا شديدًا: ضُرِبَ ضربٌ شديدٌ زيدًا، ولا ما أشبه ذلك»(6). ويأتي تعميم القاعدة في سياق تعليل الحكم السابق، قال «لأنّ غير المفعول به إنما يُقام بعد أنْ يُقَدَّر مفعولًا به مجازًا، فإذا وُجِد المفعول به حقيقة لم يُقَدَّم عليه؛ لأنّه مِن تقديم الفرع على الأصل، لغير موجب، وأيضًا المشبه لا يقوى قوة المشبه به، فإذا اجتمعا لم يصحّ تقديمُ الأضعف على الأقوى، فلم يَسُغ إقامُة غير المفعول به مع وجوده، وأيضًا السماع كذلك، ولم يأتِ على خلافه إلا قليلًا(7)، وقد نبّه عليه»(8). فجمهرة الاستعمال حسب المسموع من العرب إقامة المفعول به نائبًا عن الفاعل، ولا يضير ما سمع من مُثُل قليلة أقيم فيها غيره بوجوده. ويمكن أن نحرر المسألة وفاقًا للشاطبي بأن الفاعل يكون له نائب هو المفعول به مع الأفعال المتعدية، فإذا تخلف المفعول به مع الأفعال اللازمة ناب عنه غيره كالمجرور أو المصدر أو الظرف؛ لأنها عُدّت مفعولات بها مجازًا. وساغ لنا الآن أن نقول إنّ ثمة نائبَ فاعل كقولنا (أُكرِم زيدٌ) ونائبَ مفعول به كقولنا (دُخِل في الفصلِ).
... ... ...
(1) يحذف الفاعل وينوب عنه المفعول به لأغراض منها العلم بالفاعل نحو: أُنزِل المطرُ، فالمنزل الله، وللجهل به نحو: سُرِق المالُ، فالسارق مجهول، ولتعظيمه: عُزِّرَ اللّصُّ، والمعزّر القاضي، عظّم فلم يذكر مع اللص، ولتحقيره، نحو: طُعن عُمَرُ، حقّرت الطاعن فحذفته، ولإبهامه، نحو: ضُرِبَ زيدٌ، وللخوف منه، أو عليه، نحو: ضُرب الأميرُ.
(2) يُضم أول حرف متحرك في الفعل الماضي ويكسر ما قبل آخر حرف (عُرِفَ، استُخرِجَ)، ويضم من بناء (تفاعل/ تفعّل) أوله وثانيه (تُبودِلَ/ تُعُلِّمَ)، وأما المضارع فيضم حرف المضارعة منه ويفتح ما قبل آخر أحرفه (يُعرَفُ/ يُستخرَجُ).
(3) قال أبوحيان «هذا الاصطلاح في باب المفعول الذي لم يسم فاعله بالنائب لم أره لغير هذا المصنف، وإنما عبارة النحويين فيه أن يقولوا: باب المفعول الذي لم يُسَمَّ فاعله، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح» (التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل، تحقيق: حسن هنداوي، ط1، دار كنوز إشبيليا/ الرياض، 2005م، 6: 225).
(4) اختلفوا في (الجار والمجرور)، فذهب المبرد إلى أن المناب هو المجرور (المقتضب، 4: 52)، وذهب ابن جنّي إلى أنه حرف الجر وما عمل به (اللمع، ص34)، وذهب السيرافي إلى أنه حرف الجر المتصل بالاسم، قال «وذلك سير بزيد السيرَ الشديدَ، تقيم الباء مُقام الفاعل» (شرح الكتاب، 3: 280).
(5) أبوأوس إبراهيم الشمسان، قضايا التعدي واللزوم في الدرس النحوي، 149.
(6) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، المقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية، تحقيق: عياد بن عيد الثبيتي (ط1 ، جامعة أم القرى/ مكة المكرمة، 2007م) 3: 42.
(7) من ذلك قوله تعالى (لِيُجْزَى قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [14-الجاثية] على قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة وعاصم (في رواية)، ومنه قول جرير:
ولو ولدَتْ قفيرةُ جِرْوَ كَلْبٍ***لَسُبَّ بِذَلِكَ الجِرْوِ الكِلابا
(8) الشاطبي، المقاصد الشافية، 3: 42. وعقّب على ذلك بقوله «وهذا مذهب البصريين. وذهب الكوفيون إلى جواز إقامة غير المفعول به مع وجوده قياسًا، وأجاز ذلك الأخفش من البصريين حكاه عنه ابن جني، وغيره. وقيّد بعضهم إجازة الأخفش لذلك بأن يكون المفعول به متأخرًا في اللفظ عن المـُقام نحو: ضُرِبَ الضربُ الشديدُ زيدًا، فإن قلت: ضُرِبَ زيدًا الضربُ الشديدُ لم يجز عنده» (الشاطبي، المقاصد الشافية، 3: 42-43.).