تخطفته أيادي الردى منذ زمن فكان من رواد الأمس ومن أهله وودائعه وعوائده ومن ظروفه وشخوصه! ما أسرع عقارب الدقائق حين تنقضي بها الساعات هكذا بسرعة البرق دون أن تمهلك! وقد بقي في فيك كلاماً وحكايا لم تمضغها بعد وقد تسرّبت إلى نفسك أمنيات تشبعها بأحلام المستحيلات لو تحظى بآخر لقاء لتنفث فيه ما لم تهضمه الأيام والسنون! قدّر الله وكأنه يوم أو بعض يوم بينما لم يزل ظله قائماً وكأنني أنظر إليه في بياض الشمس وعند حمرة الغروب لا يبرح في ذاكرتي يمطرها بوابل من الذكريات التي أتهيأ لها بابتسامات أرسم فيها ملامح ومواقف كانت من أسعد اللحظات لا أريد نسيانها وإن غاصت في لجج الأيام الخوالي .
ما أصعب الرحيل! عندما تعرف أنك لن تلقاه أبداً وأن حروف الزمن تناثرت في دفاتر تستنطقها أشباح ينقطع فيها صوتي من عنف الحياة وقسوتها وكأنها في بيداء مقفرة قد ضلت أنامل صاحبها فهي تجول في فلك الذكريات وقد طمرها عجاج الوقت لا يسمع صداها سوى قلوب تيتمت بفقدان أرواح تعودت على رؤيتها أزمان وأزمان وكأنها ساعة أو نصف ساعة مرت هكذا وعبرت دون إذن مسبق من أحد ، مسافة أشبه برحلة قصيرة وقصيرة جداً رحم الله متمم بن نويرة حين أوجز رحلته مع أخيه على طولها التي استغرقت عمراً في بيتين من قصيدة طويلة :
وكنّا كندمانيّ جذيمة حقبةً
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما .. تفرقنا ..كأني ومالكاً
لطولِ اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا
ذلك المسافر الذي لم يلوّح بيده مودعاً وترك الضجيج وتكاليف الحياة وسأم الانتظار دون رقم يُذكر وتخطى طوابير البشر مسرعاً ونسي حقائبه فلم تكن بالنسبة له ذات مغزى لذا آثر عدم حملها معه واختار خرقة بيضاء تكفيه المؤنة وتذكرة عبور وكرسي من الأرض لا يسع إلا لآدمي واحد !
ألقيت نظرة على (المسافر وظلّه) كما يقول نيتشة لكي أرى نفسي في ذلك المسافر بعد عمر من الصحبة قاربت سنيناً أُخطأ في عدّها ، جلست أطيل النظر في كل مرآة وكل زجاجة عاكسة لكي أرى المسافر وظله لعلّي أتبين بعضاً منه حتى لا تفقدني تقادم الأيام صورة ظلت تتجدد في الذاكرة كلما أراد الدهر محوها من صدأ الليالي والسنين!
يا لها من برهة والتفافة سريعة حين تقاذفته أمواج الحياة فجدّف بعيداً وإذا بالمنيّة قد رمته فجأة في غربة وأي غربة ؟!( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين ، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادّين ) حين تقرأ من كتاب الله عليك أن تكون وقّافاً ! فهنا فقط يكون الاستسلام ، هنا يمضي كل شيء وتقف الحقيقة التي علينا أن ندركها فلا تحتاج إلى مفسّر أحلام لكي يوقظك على واقع لا بدّ منه ، لأنها بلا شك مهضومة الحروف والجمل سهلة هكذا لا يصيبك منها عسر فتتقيأ ندماً وحسرة يوماً ما ..!
هل ترون خلفي آثار من فرّ هارباً
تُرى هل تسمعون من الطريدة لهاثها ؟
تسْعَون وسمعكم تُلقون عبثاً
وها أنا مبتسمٌ وأكتفي
فغابة المسكونة فسيحة رحيبة المدى ..
(أوسكار لويرك من الغابة المسكونة)
لذكرى الصديق العزيز الأستاذ عدنان حسين الجاسم !
** **
- زياد بن حمد السبيت