سبعة أفواه تتقاسم منزلاً متواضعًا جدًّا
الغنم، وبقرة حلوب، وكلب يقوم بدور الحراسة، وعدد لا متناه من القطط الملونة، وديك بعرف طويل مع دجاجات عشر، تشاركنا السكن. جدي المسن يجيد تناول السجائر بشراهة، وعزف الناي.
لا يكاد يبدأ العزف حتى تداهمه الكحة؛ فيكح حتى تتقطع أنفاسه، حتى أننا نخشى أنه فارق الحياة لكنه يفاجئنا بالعودة للعزف كلما فاق؛ ليتحفنا عزفًا نداول رؤوسنا معه طربًا، ثم لا يلبث أن يمطرنا بقصائد للبردوني والجواهري وبدر شاكر السياب.
كنت نحيفًا جدًّا، وضعيف الحال. إخوتي يقضون على أي وجبة حتى قبل أن تشبع عيناي من منظر الطعام، وإذا لم أنتبه جيدًا ليدي ستتعرض لأظافرهم الصلبة.
كثيرًا ما أصابتني أظافرهم فأبكي ألمًا، وينزف دمي بغزارة.
والدي كان يعرف معاناتي جيدًا؛ لذا كان يخصني بحب خاص ولا نهائي. أكتشف حجم محبته وشفقته حين تحضر وجبة الطعام على قلة حضورها.
كنت سعيدًا أن استأثرت بقلبه.
لم تدم الحالة طويلاً؛ فقد حلت جائحة بأسرتنا.
في ليلة مقمرة، وفي الهزيع الأخير من الليل، والد زوج أختي وزوجاته يزورون منزلنا.
الأمر لا يثير الكثير لطفل في سني.
ركام النوم يحتلني؛ فأنام.
الشمس تعود معلنة صباح يوم جديد. منزلنا يغص بنساء يمارسن العويل. سيارة قادمة من أطراف القرية تحمل عددًا كبيرًا من أفراد قبيلتنا.
يسيرون وسط سيل هادر من التهليل والتكبير.
(الفقيه) يترجل من السيارة متجهًا نحو والدتي مواسيًا ثم ينزلون جثة مغطاة.
أستطلع وإخوتي الأمر.. والدي مسجى، يتجهون به نحو المقبرة.
الجميع ينخرط في البكاء.
أثناء مراسم الدفن نساء القرية يتهامسن:
عالية: لم يبق بعده الكثير من الرجال.
ختيمة: لماذا سارعوا بدفنه؟!
سالمة: ماذا تقصدين؟!
هيلة: الجميع تواطؤوا على قتله، ولفقوا قصة مختلفة لوفاته.
ليلى: هم لا يدفنونه، بل يدفنون معاني الصدق والرجولة.
المسنة حمدة تزجرهن بعنف:
أنصحكن بالكف عن هذا؛ فالصمت أفضل ما يطوى عليه فم.
قبل أن يغادرن خضراء تنظر لي وهي تقول لرفيقاتها:
إنه شديد الشبه بأبيه لولا نحافته الزائدة.
عندما استويت رجلاً كانت ختيمة وخضراء وهيلة وعالية قد متن منذ حين، ولحقت بهن سالمة وليلى، لكن حديثهن بقي يستصرخني لمعرفة تفاصيل حياة أبي.
أما جدي فقد طلق الناي بفتوى إمام المسجد، لكنه بقي يردد قصيدة الجواهري:
أتعلم أم أنت لا تعلم
بأن جراح الضحايا فم
ويبكي حتى يغمى عليه.
كان على يقين أن أهل الوادي سيجلون عن قراهم بدم ولده.
كانت أمنيته أن يشهد لحظة رحيلهم، لكنه مات قبل أن تتحقق نبوءته التي هي اليوم حقيقة يعيشها الوادي القفر.
** **
ناصر بن محمد العمري - المخواة