د. عبدالحق عزوزي
استحضرنا الأسبوع الماضي بعضا من مظاهر اللغة والاختراق الثقافي، ولعلنا في غير حاجة إلى أن نؤكد أن اللغة -أية لغة- تعتبر في أي وطن مقوما أساسيا ومكونا رئيسيا للهوية، ومن ثم فإن وعي أي مجتمع بل إن أكبر مظهر لهذا الوعي هو شعوره العميق بهويته أي بذاته وشخصيته. ونظراً لهذه العلاقة الوطيدة فإن الإساءة إلى اللغة أو محاولة الحط من شأنها، لا تلبث أن تنعكس على تلك الذات عبر الانعكاس على فكر الناطقين بها.
وحين يتعلق الأمر بلغتنا العربية، كما يكتب بحق العلامة والأديب المغربي عباس الجراري، الذي تحدثنا عنه مرارا في صحيفة الجزيرة الغراء، فإننا نرى ضرورة التذكير بأنها لغة الدين والحضارة، لارتباطها الوثيق بالكيان، من خلال القرآن والحديث النبوي الشريف والتراث الغزير الذي أنتجه العرب والمسلمون على امتداد التاريخ وما زالوا ينتجونه. وهي بعد هذا لغة حية ودولية، وأداة تواصل ديني لنحو مليار ونصف مليار من المسلمين، أزيد من ثلاثمائة مليون عربي هي لغتهم الأصلية والرسمية. وحسب بعض الإحصاءات العالمية، فإنها تسجل رابع لغة في العالم من حيث عدد المتحدثين بها، بعد الصينية والانجليزية والإسبانية، وفي إحصاءات أخرى أن العربية تحتل الصف الثالث، وهو ما أكدته السفيرة ندى يافي في الجلسة التي جمعتني وإياها في احتفالية اللغة العربية باليونسكو. أما الفرنسية التي نتمسك بها في أقطار المغرب العربي فتأتي في المرتبة التاسعة أو العاشرة.
ثم إن اللغة العربية اليوم تشهد انتشارا كبيرا غير مسبوق، ما يبعث على التفاؤل بشأنها واعتبارها بخير. إلا أنها رغم ذلك تعاني مشكلات، وتواجه تحديات ذاتية وخارجية. وهو واقع يعكس الأزمة التي تجتازها المجتمعات العربية، ولا سبيل لتشخيص ذلك الواقع إلا بالنظر إلى هذه الأزمة، لأن معاناة اللغة من معاناة أهلها، وأنها ليست مجرد أداة للتعليم والإرادة، ولكنها الآلية التي تحرك المجتمع عبر الفكر والعلاقات التواصلية المختلفة.
وحتى نبقى في المجال اللغوي الصرف، فإنه لا مناص من الإشارة إلى بعض العوائق التي ظهرت منذ أوائل عصر النهضة، والتي عرقلت تطور العربية وازدهارها، ومنها الدعوة إلى اتخاذ الحرف اللاتيني بدلاً عن الحرف العربي، على الرغم من جماليته وطاقاته التعبيرية في الكتابة، ومثلها المناداة بإلغاء التراث وتجاوز قواعد النحو والصرف، وكذا المناداة باستخدام العامية حتى في الكتابات الأدبية؛ مع الحرص على إعطاء مكانة متفوقة للغات الأجنبية في التعليم والإدارة. والحق أن هذه الدعوات لم تكن تسعى إلا إلى إضعاف الانتماء العربي وتمزيق الفكر ووضع القطيعة مع التراث، دون إغفال التأثير السلبي على التنمية، ليس فقط في جانبها الثقافي، ولكن في مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية كذلك.
في تدخلي في اليونسكو عن الاختراق الثقافي أشرت إلى أن الاختراق لا يكون له أية قوة على اللغة إذا توفرت على المضادات أو لنقل المناعة وعندما تصبح ثقافة جماهيرية، أي عندما تجد الجميع يستهلكها. ولا غرو أن استهلاك الثقافة في مجتمعاتنا المعاصرة له علاقة بالعرض والطلب وبالسوق وبالصناعة الثقافية، بحيث أضحت للثقافة قيمة تبادلية.. وهذا الكلام يجعلنا ندافع عن لغتنا الأم، وعن التعدد اللغوي في نفس الوقت، وقد أشرت في تدخلي إلى رسالة كان قد أرسلها إلي المرحوم محمد العربي المساري تلخص هاته الإشكالية: «مرة أخرى أشكركم على حسن الظن بأخيكم هذا الذي يجل فيكم التطوع لخدمة الفكر والعمل الدؤوب في تنشيط الحوار الخلاق فيما بين مثقفي الضفتين. النقاش الذي نشب مؤخرا حول التعدد اللغوي يكاد ينحرف إلى مسار إيديولوجي منغلق بل وحزبي إقصائي... والحال أن الفرنسية كما كانت الإسبانية طيلة مائتي عام بالنسبة لمعاملاتنا الديبلوماسية والتجارية هي لغة انفتاح وتواصل ولا يمكن التفريط فيها الآن وقد أصبحت رأسمالا ثابتا للمغاربة رغم أن فرضها كان بفعل حادث سلبي هو الاستعمار؛ والتاريخ مليء بالأحداث السلبية التي أدت إلى غير ما يسعى إليه مدبروها... وقد بينت في كتابي الذي راقكم وسعيتم إلى توسيع انتشاره بطبعه في المشرق أن الاحتكاك مع الطبقة المفكرة الفرنسية أثناء الأزمة جعل المغاربة يكتشفون أن هناك فرنسا أخرى نبيلة ترفض الظلم وتبشر بالعدل والتسامح... وكنت قد بسطت هذا في عرض أدليت به في أول لقاء نظمتموه عن الحوار بين الحضارات... إن الموضوع كما ترى متشعب وهو جدير بأن يؤدي إلى نقاش مترفع كما يمكن أيضا أن يسقط في مهاوي منحرفة غريبة على الجو الذي نريده أن يسود...» وللحديث بقية.