سلمان بن محمد العُمري
تناولت في المقالة السابقة ما ورد من فضائل عن البر وصلة الأرحام في القرآن والسنة ومآثر السلف وأخبارهم في هذا الباب وتنافسهم في البر بوالديهم والإحسان إليهم بل وبر وصلة أقاربهم وأصحابهم، وفي هذا الزمن وإن ظهرت صور متعددة من ألوان العقوق والقطيعة مما نسمع أو نقرأ بل ونشاهد في المقاطع التي تنتشر في وسائط التواصل بالتعدي بالإهانات اللفظية أو التعدي باليد نسأل الله العافية، أقول وإن ظهر هذا العقوق إلا أن الخير ولله الحمد باق فلازالت صور البر ماثلة أمامنا في كل زمان ومكان.
من أبرز مظاهر البر الظاهرة للعيان مباشرة أو عبر وسائل الإعلام ما يقوم به بعض الحجاج مع والديهم من حملهم على ظهورهم في الطواف والسعي والتنقلات عبر المشاعر وداخل مكة المكرمة وليس دفعهم بالعربات، وهذا الأمر لا يختص بجنس أو لون بل هو عام في كل أنحاء العالم الإسلامي فهي مع أنها من خصال الفطرة السوية فهي قربة إلى الله عز وجل.
وصور البر وفيرة والشواهد كثيرة، فرجل أوسع الله عليه الخير وزاده من فضله ويسمع أن رجلاً كبيراً بالسن سيتم إيقافه لمبلغ مالي كبير ودونما طلب منه أو من ذويه يسافر المحسن الشاب إلى مكان الرجل الكبير ويقدم له ما يزيد على المليون ريال.. أتعلمون لماذا ؟
لأن هذا الرجل الكبير سبق له أن تزوج بخالته وتوفيت وهي بذمته ولم تنجب منه ولداً، ولكن والدته المتوفاة كانت تتحدث عن حشمته لأختها وأهلها والإحسان إليها وبراً بوالدته وأهلها، فهب لمساعدة الرجل.
ليس غريباً أن نسمع من يبر بأمه وأبيه أو أن يكرم إخوانه وأخواته من باب البر بوالديه بعد وفاتهما ولكن البر تعدى ذلك للأصحاب والجيران وكل من كان له صلة بوالديهم فهذا رجل صالح رتب لزملاء والده الأحياء جدولاً للزيارة بحيث لا يمر نصف العام دون زيارتهم ودعوتهم لمناسباته، وآخر أراد عمل صدقات للماء وحفر آبار وأدرج اسم جارة لهم منذ عقود وقد توفيت هي ووالدته فحفظ العهد والود الذي كان بين الجارة ووالدته وخصها بصدقة جارية.
وفي المقابل مع الأسف نسمع من قصص القطيعة والهجرة بل والاعتداء مما كنا نعده من العجائب والغرائب والمستحيلات، ومما لم نكن نتخيله أو نتصور حدوثه عند غيرنا، فكيف وهو بيننا، ولربما قال قائل إن متعاطي المخدرات والمسكرات هم من يقع منهم مثل هذه الحالات أقول: نعم، فليس ببعيد على من ابتلي بأم الخبائث والمخدرات أن يقع منه ذلك، ولكن الهجر والقطيعة والظلم وقع من أشخاص يعدهم الناس أسوياء وممن ينظر لهم بعين الاعتبار في الملاءة المالية والكفاءة العلمية والمقام الوظيفي ولكن لا تسل عن كيفية تعاملهم مع والديهم فالطيب منهم من ترك عند والدته من يخدمها من العمالة المنزلية وهجر الزيارة أو يتلكأ فيها وصعب عليه إكرام والديه بإسكانهما عنده خوفاً ورهبة من سلطة زوجته ونفور عياله من والديه، ولا تسل عمن الحقوا بدار المسنين وهم ينعمون بثروة آبائهم الأحياء ويتمتعون بها مع بنيهم في الداخل والخارج، وكم من عاق اشتكى والده على المحكمة وطالب بالحجر على والده حينما سمع أنه يريد أن يوقف شيئاً لوجه الله أو بناء مشروع خيري، وهناك من أوصد الأبواب وعاتب بعض أصحاب والده بدلاً من الإحسان إليهم أو على أقل تقدير احترم شيبتهم ومكانتهم من أبيه لأنهم أشاروا على والده في بناء مسجد ورأوا أن هذا تبديد لثروة والدهم ومنقصة في حصتهم القادمة من الميراث!.
وهناك صور كثيرة من العقوق ومنها ما يراه الناس ظاهراً من قرب الابن لوالديه في منزلهما أو في منزله ولو كان بعيداً عنهما فلربما كان خيراً لهما فهم يرون منه الجفاء صباحاً ومساءً وربما مر اليوم والأيام ولم يؤانسهما بالحديث والتسلية والجلوس معهما، وإن تحدث إليهما نهرهما وزجرهما ورفع الصوت عليهما، إن طلبوا منه شيئاً تأفف من طلبهما، أو التأخر في قضاء حاجاتهما والتسويف بها إلى أن يسأم الوالدان بعد ذلك من طلبه، وأما الأكل فيقدم لهما بمفردهما بمعزل عن أهل البيت وكأنه أجنبي، فأين هولاء مما حذر منه وغلظ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ففي الصحيحين من حديث أبي بكرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: (ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسولَ الله، قال: (الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدين)، والعقوقُ دينٌ واجبُ السَّداد في الدُّنيا قبل الآخرةِ: فعن أبي بكرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: (اثنتان يُعجِّلُهما اللهُ في الدُّنيا: البغيُ وعقوقُ الوالدين) أي يعجِّلُ لهما العقوبةَ والانتقامَ والجزاء فالبرَّ والعقوقَ دينٌ ووفاء، فمن أكرم والديه أكرمَهُ أولادُه، ومن أعرض عنهما وأساء إليهما سلَّط اللهُ عليه من لا يراعي فيه إلاًّ ولا ذِمَّةً, ولا يحفظ له وُدَّاً ولا قيمةً وفي الحديث: (بُرُّوا آباءَكم، تَبُرُّكُم أبناؤُكم).
خاتمة:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) (25).