د. محمد بن إبراهيم الملحم
التخطيط أصبح سمة مميزة للمعلم المحبوب، ولا تفهموني خطأ فلا أقصد التخطيط بمعنى رسم الخطط للتدريس أو الأنشطة التعليمية وإنما هو التخطيط بمعنى وضع خطوط تحت المعلومات المهمة في الكتاب المدرسي ويبدو أن لهذه العملية اسمًا آخر أو «اسم الدلع» إن شئت وهو «التحديد»، حيث يحدد المعلم أو المعلمة أهم الموضوعات أو الأفكار أو المعلومات سواء كان هذا التحديد بالتخطيط (وضع خط تحت السطور المطلوبة) أو بحصر صفحات معينة هي المطلوبة أو موضوعات معينة وما إلى ذلك من أساليب التصرف في المادة المقررة، وهي إجراء نشط جدًا في أيام ما قبل الاختبارات، بل إن بعض الطلاب والطالبات يذهبون للمدرسة في الأيام الأخيرة من الفصل الدراسي وقبيل الاختبارات لهذا الغرض فقط، والواقع أني لا ألوم المعلمين بشكل مطلق على هذا التصرف فهناك تفصيل مهم هنا: فأولاً هو نسخة محدثة للتلخيص الذي عاصرناه في السبعينيات والثمانينيات ثم صدرت تعليمات وزارية مشددة بمنعه فتوقف المعلمون عن الكتابة المطولة على السبورة ونقل الطلاب منها أو تملية الطلاب، وهو ما كان يحدث بكثرة خاصة في مواد الرياضيات والعلوم نظرًا لكثافة المادة وكثرة الحشو في الكتب المقررة، وأصبحت هذه الممارسة محل لوم فيما إذا ضبطها الموجه (كما كان يسمى آنذاك) أو مدير المدرسة، ثم لجأ المعلمون إلى أساليب متنوعة تعويضًا عن ذلك تدرجت من الملخص السبوري المحدود ثم المذكرات وانتهت بالتخطيط والتحديد.
ثانيًا: هذا التخطيط أو التلخيص في صيغته التاريخية السالفة هو تعويض عن مشكلات العرض في الكتاب المقرر فإما يكون مليئًا بالحشو أو يستخدم لغة متقدمة على الطلاب أو يستخدم صيغًا أكثر تعقيدًا كالمعادلات وحلول المسائل بطرق غير مألوفة مما يلجيء المعلم إلى إعادة عرض المادة أو تحديد النقاط الأساسية فيها دون أن يخل بشموليتها ومفرداتها الموضوعية، وهو ما يفعله المعلم الجاد في الواقع ولسنا نلومه، بل ربما نشكره لما يقدمه لطلابه من جهد نوعي في تيسير الفهم عليهم، وهؤلاء كانوا أغلبية المعلمين في الجيل السابق ولكنهم في الجيل الحالي القلة القليلة، بينما يغلب على أبطال التخطيط والتحديد في مدارسنا اليوم اختزال المادة وتجاوز عوائقها النوعية التي لا يمكنهم التعامل معها، وأقصد هنا أنهم إما لا يملكون القدرة العلمية على فهمها (وهذا يكثر في المواد العلمية) أو أنهم لا يملكون القدرة التدريسية على شرحها مما يعسر مهمتهم فيلجؤوا إلى استبعادها والتخلص من شرها، وهم عادة لا يقدموا على إلغاء موضوعات كاملة وإنما أجزاء متفرقة وصغيرة هنا وهناك، ولكنها مؤثرة.
ثالثًا: يشجع على هذا التصرف إيغال بعض الكتب المقررة في البعد عن الواقع بمستوى لغوي لا يتقنه الطلاب خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن تدريس اللغة العربية ضعيف وقدرات الطلاب على استيعاب المقروء متدنية جدًا، كما تستعرض الكتب عضلاتها العلمية بما يصعب الفهم على الطلبة (وبعض المعلمين)، ودافع المؤلفين أنهم لن ينزلوا بمستوى الكتاب المقرر إلى مستوى الواقع بل يجب أن يبقى الكتاب في المستوى اللائق بسمعة الوزارة ويرتفع الواقع إلى مستوى الكتاب! وهذه الفلسفة لها سنوات طوال ولم يرتفع واقع التدريس، بل هو في نزول كما أن مستويات عدد من الكتب ظلت تمارس الصعود!
أخيرًا جيل التخطيط والتحديد ما هو مستقبله؟ معرفة محدودة، ثقافة سطحية، علاقة منفعة بالعلم، عدم قدرة على القراءة السابرة، عدم تمكن من الاختصار والتلخيص، سطحية في التفكير، قدرات مهزوزة في كل مجال. كثير من الطلبة المتمكنين استيقظوا في السنوات الجامعية (لدى الجامعات الجادة) حينما واجههم تحدي المعرفة بالتعامل مع الكتاب بشكل مباشر دون وسيط واستوعبوا أنهم بحاجة إلى الإبحار في صفحاته وسبر أعماقه لاستخراج المهم منه بأنفسهم ثم تلخيص تلك المعرفة ليسهل عليهم تناولها فيما بعد أيام الاختبارات. حقيقة مرة ستقابل كل طالب يطمح في أن يتخرج في جامعة قديرة وفي تخصصات مهمة وستكون أقسى ما تكون على طلاب «التخطيط» و»التحديد»، فليكن الله في عونهم.