د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** ينتهي الورق وتبقى الكلمة، وتغادر القنواتُ المرئية ويظل البث، وربما نعينا مبكرين الإذاعات المسموعة فانتفضت وعادت اليوم أقوى وأنقى، ومن ظن عنوان هذه المقالة مازحًا فليتأمل تبدل المعادلات بصورة لا يستطيع استيعابَ تسارعِها الاختصاصيون والمهْنيون؛ فالوسائط تدفن بعضَها، وما يموت في زمن يتكون بصورةٍ مقاربة أو مغايرةٍ في زمنٍ غيره، ويُتعب نفسَه من يتابع التبدلات الرقمية فقد كبَّرنا أربعًا على مقولة «لا جديد تحت الشمس» وأيقنّا ألا انكفاءَ في العالم الرقمي ولا انطفاء.
** المقصود بالإذاعات المسموعة «هنا» لا يتماسُّ مع الإذاعات التقليدية التي اعتدناها عبر موجاتها المختلفة «القصيرة والمتوسطة والإف إم وأنماطها» بل الإذاعاتُ الرقمية في برامج الأجهزة المحمولة؛ حيث انضمت -نهاية عام 2016م- مئة وسبعون محطة إذاعية رقمية محلية في بريطانيا ليبلغ عدد المحطات المماثلة ثلاث مئة وتسعًا وثلاثين محطة في دولة واحدة كما في تقرير أصدرته «فايننشال تايمز» ونقلته الوكالات والصحف وأشار إلى تزايد عدد مستمعي إذاعات إحدى الشركات الثلاث العاملة في بث «الديجيتال» من 19 مليونًا عام 2012م إلى أكثر من 24 مليونًا عام 2017م، وقال إن الحكومة البريطانية تنوي إلغاء ترددات «الإف إم» بشكل تام بعدما تسيَّد الساحةَ البثُّ الرقمي الذي يتيح الصوت ويضيف الصورة ويهتم به الشباب والشيوخ.
** الدراسات كما الأرقام متاحة لمن شاء مزيدَ بحث، ولعل تجربتنا الإذاعية في محطات «الإف إم» الخاصة أعادت للإذاعة المسموعة بعض وهجها، فإذا أدركنا المتغيرات التقنية الضخمة، وملايين السيارات التي تجوب الطرقات «داخل المدن وخارجها وفي القرى والهِجر والفيافي» على مدار الساعة، وورود معلومات عن احتمال تزويد السيارات «براديوهات» تستقبل بث الدنيا كلها من مائها إلى مائها (وهو متاح حاليًا في التطبيقات الشبكية) فإن قادم الإذاعات المسموعة سيكون مدهشًا، وسيفتح بابًا للتنافس الشرس وسيخلق أنواعًا من الإذاعات غير المألوفة، وهو ما نأمل أن يتواكب معه الإعلام العربي والمحلي.
** لم يعد بمقدور الإذاعيين المسترخين أن يهنأُوا بمتكآتهم الوثيرة وأجهزة استماعهم العتيقة التي أزهرت زمنًا رغدًا، كما لا معنى لاستمرار الإيقاع البرامجي والإخباري بصيغه المحفوظة؛ فالمسافة ثوانٍ يتبدل معها المؤشر باتجاه قنواتٍ تجاوزت الإملاءات والتنميطات والتحوطات والتخوفات، وفردانية الإعلام اليوم جعلت الجميع قادرين -إذا شاؤوا- أن تكون لهم محطاتهم الخاصة المرئية والمسموعة والمقروءة، وآن أن نُلقي سلام مودعٍ على زمن التوجيه في أجيال التوجه.
** ستوأدُ أصواتٌ وتُولد أصوات، وستلتفت القنوات لنفسها بما لديها وبما تستقطبه من إمكاناتٍ؛ فلا مكان -كما يُظن- للتجارب التي تردت فيها بعض إذاعات الإف إم المحلية التي جعلت مستمعين كُثُرًا يلتفتون عنها بعدما سام « البثَّ» مضيءٌ ومعتم.
** المواكبةُ اقتدارٌ وابتدار.