عبدالعزيز السماري
نحن في منطقة أقرب من أي وقت مضى لتجاوز عنق الزجاجة للوصول إلى حالة الاستقرار الدئم كما هو حال المجتمعات الأوروبية، ومن علامته الأهم تراجع الخطاب المتطرف وانخفاض حوادث العنف، ومكافحة أوجه الفساد بكل أنواعه.
برغم من التطورات الاجتماعية المتلاحقة توقفت الأصوات المتطرفة عن التحريض، ونكاد لا نسمع عن حوادث العنف والتطرف الديني، وأصبحت بعض مقولات التطرف والتعصب وبعض فتاوي التخلف العلمي غير مقبولة، ومجالاً مفتوحاً للنكتة والتندر.
وهو ما يعني أن ثمة تغييراً هائلاً قد حدث في مدة قصيرة، وهو ما يعني أيضاً أن الاستثمار في العقول والتعليم سبب رئيسي في تقدم الإنسان إلى طور أكثر تحضراً، وقد عشنا لنشهد هذا التغيير الإيجابي بلا تشنجات.
ولو حاولنا البحث عن الأسباب التي كانت المحرك الحقيقي لهذا التغيير الإيجابي وغير المكتمل، لنالت زيادة فرص التعليم والابتعاث الخارجي الدرجة الكاملة كعامل مؤثر لتغيير المجتمعات نحو المستقبل، ويأتي في الدرجة الثانية تنظيم السلطات في المجتمع، فتعددها وتقاطعها في كثير من الأحيان سلبي، ويؤدي إلى الفوضى.
وهو ما يمهد إلى الوصول إلى الحالة النموذجية، وهي سلطة عليا موحدة، وتشرف على جميع السلطات باختلافها، وعلى تطبيقات القانون على الجميع بدون استثناء، وأن تكون الضامن الأعلى والأقوى للحقوق وللحريات في المجتمع، وهي حالة من التقدم في وسعها أن تدفع بالمجتمع إلى تجاوز عنق الزجاجة.
سنصل إلى تلك الحالة بتقنين العمل الاجتماعي والثقافي، ويأتي في مقدمتها منع العمل تحت مظلات الأدلجة الشمولية مثل اختطاف الإسلام في جماعة، أو التمثيل المطلق لأمة العروبة، وهكذا، والاعتماد على تشجيع ثقافة العمل والبحث العلمي ورصد المكافآت لتشجيع التفكير العلمي في المجالات الضرورية في الوطن.
في ظل الوصول إلى هذه الهيكلة الإيجابية، تأتي الحلول الممكنة لأزمات المجتمع من خلال تنظيم أداء العمل الحكومي، والذي سيكون مسؤولاً عن إيجاد الحلول للبطالة وتأهيل المواطنين لفرص العمل كما يحدث الآن على قدم وساق، وأيضاً عن تنظيم سوق العمل وتشجيع القطاع الخاص ومشاركته في مهمة إطلاق التنمية الاقتصادية الضرورية في المرحلة القادمة.
كان المرض العربي خلال المائة السنة الماضية هو التلاعب بمشاعر المواطنين، برفع الشعارات الرنانة، وتوجيه الخطابات الحماسية، وهو ما أوصل المواطن العربي إلى أن يكون إنسان مسيس وغير منتج، وكان ثمن ذلك انقلابات عسكرية متوالية، وحالة من التشتت الذهني والفشل التنموي.
نحن في أمسّ الحاجة إلى حالة البيات السياسي، وإلى تقديم العمل التنموي على الخطاب السياسي الحماسي، وهو أمر مرحلي للوصول إلى اكتمال عناصر الدولة القوي والمؤثرة في المنطقة اقتصادياً وحضارياً وعسكرياً، وذلك لن يحدث إلا بالعمل الدؤوب الهادئ.
نكتب من واقع تجارب عربية مريرية، فالذاكرة العربية مسكونة بالفشل والشعارات المزيفة، ومحاولة تغيير ذلك يحتاج إلى معجزة إنسانية على الأرض، وأرى أن وطننا الغالي مرشح بقوة لأن يكون المثال الذي يُحتذى به في مستقبل الأيام، ونحن نملك كل الأسباب المؤهلة لذلك النبوغ، وما نحتاجه هو التركيز والمثابرة في تحقيق المعجزة التنموية على أرض الوطن.
نكتب لأننا نؤمن أن الوطن هو البيت الكبير لأبنائه، وفي إزدهاره ونجاحاته فخر وعزة وزهو لا يُقارن، وأعني بالنجاحات أن نتجاوز بواقعية حقيقية حالة الفشل والضعف والهزل التي تهيمن على المنطقة، ويتحقق الحلم الوطني الكبير بالحكمة والتأني والصبر، والأهم من ذلك إبعاد الظواهر الصوتية عن خلايا العمل التي تنتشر في كل بقعة من بقاع الوطن، والله ولي التوفيق.