د. فوزية البكر
ما زال العالم حتى يومنا هذا يحتفل بيوم الثامن عشر من شهر ديسمبر كل عام يوماً عالمياً للغة العربية وذلك بفضل الجهود العربية الحثيثة التي قادتها المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية منذ عام 1973 حين أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل داخل منظمات الأمم المتحدة لكن ألا ترون أننا وهذه اللغة الرائعة في أزمة حقيقية؟
في أحد الفيديوهات الجميلة التي انتشرت يوم 18 ديسمبر الماضي عبر تطبيق الواتساب كان هناك مقطعاً لفتاة عربية تغني حول اللغة العربية فتناجيها قائلة:
من اليمين إلى الشمال
كتبت حروفك على راحة يدي، من اليمين إلى الشمال
عندما رأيت لساني معلقاً بين برزخ: ما بين مجد غابر واحتلال
كتبت حروفك علي راحة يدي، من اليمين إلى الشمال
بعد ما تركت على الرفوف هباء للمستشرقين
بعدما رأيتك تكتبين من الشمال إلى اليمين: هجرتك ما بين الجدران
فعودي إلي، فعودي إلي: أنغام عود، عودي إلى أذني أذان
فلساني أرض محتلة وأنتِ الشعب المنفي فعودي الآن
تعلمت الإعراب في مدرسة أمريكية
ترجمت النصوص للإنجليزية لأفهمها
على المقاعد الخشبية: ساعتان في الأسبوع تكفيان
أضعتك في القواعد وفي الحفظ
بعيداً عن البديع والبيان
أضعتك بين ورقة تسجيل وورقة امتحان
وكم يعجز قلمي عن الكتابة
وكم يتلعثم لساني: تتعثر في فمي أبيات الشعر وآيات القرآن
وما زلنا نردد: أنا البحر في أحشائه الدر كامن
في صفوف مدارس نستورد مناهج تعليمها
يا بحراً غرق غواصوك وسرق دررك القرصان
يا بحراً أهمده التاريخ فعودي إلي طوفان
لأركب حروفك سفناً وأبحر
فيصبح الشعر ذاكرة ونسيان
لأركب حروفك سفنا وأبحر
ويصبح الشعر وطناً لكل الأوطان
فعودي إلي، أنغام عود، عودي إلي أذني أذان
فلساني أرض محتلة
وأنت الشعب المنفي
فعودي الآن
لتكتب سطورنا من اليمين إلى الشمال، من اليمين إلى الشمال.
كيف حدث أن أولادنا اليوم يحتاجون إلى ترجمة القطع العربية إلى الإنجليزية ليفهموها؟ كيف حدث إن سكتنا على هجر أطفالنا للغتهم الأم والاكتفاء بلغة المربيات والسائقين، كيف خنقنا اللغة العربية في الفصول الدراسية وفي الامتحانات وشاركنا بفعل (ذاكرة الكتاتيب الوعظية) كما تسميها أميمة الخميس بجريمة تعليم تلقيني يتعامل مع اللغة لا كممارسة وأدب وإبداع بل كحفظ للقاعدة الإعرابية واللغوية ودرجات في الامتحان وهو ما ساهم في تأكيد صعوبة اللغة على الجيل الذي لم يمارسها حين كان صغيراً وصفقنا بسذاجة لأطفالنا حين عبروا عن أنفسهم بلغة العاملة المنزلية الإنجليزية المكسرة متجاهلين أننا الكبار شاركنا في مؤامرة هجر الأجيال الجديدة للغة القرآن.
لنستمع لما تقوله توني مريسون الكاتبة الأمريكية المشهورة في حفل منحها جائزة نوبل للآداب عام 1993:
(أنا مقتنعة تماماً أن اللغة عندما تموت، بسبب الإهمال والاستعباد واللا مبالاة وغياب التقدير، أو حينما تُقتل تنفيذاً لأوامرٍ ما، فلن تكون وحدها المسؤولة، بل كل مستخدميها وصانعيها مسؤولون عن زوالها. في بلادها كان الأطفال يعضون ألسنتهم ويستبدلونها بالرصاص فقط ليرددوا صوت الوجوم، صوت اللغة المشلولة المعطَّلة، اللغة التي هجرها الكبار ولم تعد الوسيلة التي يشدّون بها وثاق المعنى، لم تعد الوسيلة التي يتزودون منها بالعون وبالتعبير عن الحب. لكنها كانت تعلم جيداً أن الانتحار باللسان لم يكن خيار الأطفال وحدهم. كان خيار البالغين أيضاً، خيار الرؤوس الصبيانية الحمقاء للولاة ولتجَّار القوة الذين نزحوا من لغتهم ولم يعد لهم من سبيل للعودة إلى ما تبقَّى من فطرتهم الإنسانية، لأنهم لا يستخدمون ألسنتهم إلا من أجل إصدار الأوامر التي تُطاع أو تُجبر على الطاعة).
كيف حدث أن طفلك وطفلي وابنك وابنتي خاصة في المدن الكبرى لم يعودوا قادرين على شد وثاق المعني المراد في أذهانهم بلغة عربية سليمة؟ وكيف يعجز التلميذ عن حل المسائل العلمية والرياضية ليس لأنه لا يستطيع فهم الرياضيات أو العلوم، بل لأنه لم يفهم اللغة العربية التي كتبت بها المسألة الرياضية أو السؤال العلمي؟ هذه حالنا في مدارسنا وجامعاتنا وحان لنا أن نستفيق قبل أن نجد طائر اللغة العربية وقد طار من بين أيدينا فلغة بحجم تاريخ وعظمة اللغة العربية لا تستحق منا ذلك أبدا وعلينا أن نتجمع بأفكارنا ومبادراتنا لاستعادة لغتنا العربية وجعلها جزءاً من ذاكرة الأجيال الشابة فهل من أفكار خلاقة لذلك؟