د.فوزية أبو خالد
يوم ينشر هذا المقال يكون اليوم الثاني من أيام تكريم الشاعر علي الدميني من قِبل جمعية الثقافة والفنون التي تنوب فيها عنا جميعًا، أي عن الشعر والثقافة والوطن في تقديم التكريم المستحق لعلي الدميني شاعرًا مجددًا ومحلقًا, ووطنيًّا مستنيرًا ومثابرًا, ومؤسسًا لثقافة الحوار والحرية الجادة والعميقة, وأفقًا متعددًا على مد البصر لأجيال من الشباب سعوديًّا وعربيًّا.
وهذه الكلمات ليست وصفًا لشخصية الشاعر، ولكنها بعض بصمات الحبر والدمع والدم والعرق التي شق بمائها علي الدميني نهرًا في قلب الصحراء، وأجرى فيه رياح التحولات محفوفة بمخاطر الطرق الأولى خفاقة برايات الأمل اللامرئية إلا للحالمين.
علي الدميني شاعرًا مجددًا
مد الشاعر يده في ماء الشعر فأخرج في وقت مبكر من نهاية السبعينيات الميلادية ينابيع حرى ونوافير مارقة من عيون الشعر الحديث، خلق لنا به حضورًا رمزيًّا وميدانيًّا على ساحة الشعر العربي بعد أن كان مقعد السعودية شاغرًا في تلك الساحة الشعرية الضاجة بالحضور العربي. فكان علي الدميني قائدًا رقيقًا وشرسًا في اختطاف شعلة شعر التفعيلة مع كوكبة جيل الثمانينيات، وحملها عنوة لربوعنا؛ ليلقي على ساحتنا الثقافية المحلية قبسًا يبدد تواريخ من العزلة والتخثر.
ولم تكن جرأة علي الدميني كشاعر تقتصر فقط على اجتراحه لجريرة كتابة شعر التفعيلة، ولكنها تجلت أيضًا في قدرته الشعرية على كتابة قصيدة تتمتع في مروقها بكل ما في شعر المعلقات العربي الشاهق عبر الأزمنة والأمكنة من عمق وقوة و»جلافة» و»زجالة» إلى الحد الذي يمكن أن يقال فيه إن شعر علي الدميني شعر المعلقات الحديث.
علي الدميني وطنيًّا مستنيرًا مثابرًا
من القلائل الذين ظلوا على مدى ما يقارب نصف قرن من القابضين على جمرة الوطن في الرخاء والشدة، في الغيوم والمطر، وفي ظل الظلمة وطيف الضوء.
هناك من خلع جلده جملة وتفصيلاً، وهناك من قشر طبقات منه، وهناك من اكتفى بالتلون أو بتلوين بقع صغيرة أو كبيرة من رقعة ذلك الجلد حسب الظرف السياسي، ومد أو جزر التقلبات، إلا أن علي الدميني بقي من أولئك الذين لا يستطيعون أن يرتدوا حلة مطاطية لكل مرحلة، ولا يرضى أن يُقبل على موائد الكلام، وإن شقق شفاهه العطش إلا بكلمة حق أو قطرة حرية. فبقدر ما كان علي الدميني مرهفًا في وجه غواية الشعر كان جبارًا في وجه غوايات السياسة؛ فتحمل بجسده النحيل وروحه الشاهقة من الوحشة كل ما يمكن أن تتحمله الملكات في عزلة العسل، وصابرًا بمثابرة فذة على كل ما تنحت به جدران المعتقلات على أجنحة أصحاب المواقف الصعبة من جروح الشوق للحرية.
علي الدميني مؤسسًا لثقافة حضارية
في الثمانينيات الميلادية، أي قبل ما يقارب أربعين عامًا، لم يكن بالمملكة العربية السعودية مجلة ثقافية كما كان سائدًا في ذلك الوقت عربيًّا، تعبر عن صوت شباب تلك المرحلة الثقافي. وكان أقصى ما هنالك أن تخصص بعض الصحف صفحة ثقافية بطابع أدبي، تتسع للأدباء المخضرمين المتربعين على عرش الأدب السعودي التقليدي أكثر من اتساعها لإنتاج الشباب الضاج بالحيرة والحيوية والقضايا الساخنة لتلك المرحلة. فجاء علي الدميني من جامعة البترول بالمنطقة الشرقية بعد أن خرج من عباءة جبال السروات بالباحة وديمها الندي، وقدم مع كوكبة من مجايليه من الشباب عقارب الساعة بملحق ثقافي، يصدر أسبوعيًّا عن جريدة اليوم بعنوان موحٍ شعريًّا وأدبيًّا، اسمه المربد الثقافي. فصار المربد مساحة محررة لإنتاج الشباب الشعري والنثري الجديد من قصائد التفعيلة لقصيدة النثر، ومن القصة القصيرة للقصة الومضة، ومن الفن التشكيلي لأنواع متعددة من الإبداع التي لم تقدم شكلاً جديدًا وحسب، بل في الغالب قدمت أنواعًا من ثورة المضمون.
أما في مطلع التسعينيات، وفي أوج مد الانعزال الذي كانت تعاني منه حركة الإبداع الحديث، والذي ذهب بمريديها أشتاتًا؛ فمنهم من انكفأ على إنتاجه أو كف عن المحاولة، ومنهم من ندم ورأى أنه ضيع في الأوهام عمرًا، ومنهم من تاب أو استتاب عن حرفة الأدب وحرقتها ولو مؤقتًا أو لريثما تسفر المعركة عن أساطينها الجدد، ومنهم من وقف يأكل حشاه الصمت الجميل ويواعد المستقبل سرًّا، ومنهم من انضوى تحت راية ما يجري محتميًا بالمظلة الرسمية وخطابها من ضراوة الحملة على الحداثة وكأنه يتداوى من هجمة الألم ببلسم من الألم، ومنهم من مشى على الشوك يستأنس بخرير جرحه على وسوسة العزلة، ومنهم ومنهم... وأنا منهم...
إلا أن علي الدميني هذه المرة أيضًا استقوى على مصائر المحاق المحقق بمتاهة الأمل المتوهم أو المموه هو وكوكبة من الشباب، وقرر إطلاق إصدار ثقافي جديد رصين في عين العاصفة، فكانت مجلة «النص الجديد» الدورية عام 1993م هاجسًا، ثم حقيقة موضوعية تفتح أذرعها من جديد؛ لتلم شعث ما بعثرته أو طمرته هجمة الانعزال من إنتاج الشباب بمختلف أجياله من غازي القصيبي وعبدالله عبدالجبار لأصغر شابة وشاب من جيل التسعينيات، ولكن هذه المرة لم تكتفِ هذه المجلة الإبداعية الدورية الفريدة في التاريخ الثقافي السعودي التي كانت بجهودها الفردية تضاهي مجلات فكر وأدب عربية عريقة كالكرمل والمستقبل العربي وشعر قبلهما بتقديم النص الإبداعي الجديد شعرًا وأدبًا، بل قامت بدور ومسؤولية أخرى، هي تقديم دراسات في النقد الأدبي والنقد الثقافي والنقد الفكري، بل إن كل مقدمة من مقدمات كل عدد من أعداد مجلة النص الجديد كانت نصًّا فكريًّا تأمليًّا في حالة الاجتماع والسياسة والثقافة على مستوى عربي، وعلى المستوى السعودي.
هذا عدا تلك الأغلفة الناطقة تشكيليًّا بجمال تعبيري أخّاذ التي تميز بها كل عدد من أعداد مجلة النص الجديد التي كان علي الدميني مشرفًا بل متابعًا مخلصًا متفانيًا على ظهورها الدوري بكل مشاركاته الشبابية الواسعة وتموجات إنتاجه من ألفه ليائه.
أما منبر الحوار والإبداع، الموقع الإلكتروني الذي أسسه علي الدميني مع مطلع الألفية الثالثة كتجربة جديدة خاض فيها بنا وبإنتاجنا الفكري المحلي مبكرًا خضم الثورة التقنية مشكلاً نقلة نوعية في أوعية الحضور الثقافي السعودي عربيًّا وعالميًّا، فهذه قصة لا تزال تكتب بماء العين في سجل الحريات التي اجترحها علي الدميني، وقدمها بجرة ريشة ماوية سخية للوطن ولأجياله من الشباب، ومن العقول المبدعة دائمة الشباب.
شراكات علي الدميني
أما شراكات علي الدميني في هذا المشوار الدامي والشاهق معًا فهي شراكات شريفة ممهورة بدم القلب، ومكتوبة بحبر الضمير ممن لا تُحصى أسماؤهم. أما الاسم الذي يتوهج منها كجمرة الماس في لحظات الاحتفاء الرمزي بالشاعر علي الدميني فهو اسم المرأة المجبولة من شموخ الجبال وليان الماء ومياد الثورات فوزية العيوني شريكة الشاعر في خبز الحلم وملح الجراح في سموات الأخيلة وفي موكب الكبوات وعبر كل تنهيدة ولحظة من تاريخ مسيرة النضالات اليومية الصغيرة والكبيرة. وتلك المرأة لا تكفيها خاتمة الكلام؛ فهي رمز حقيقي للبدايات، لا بد من العودة للحديث عن مسيرتها المستقلة والمشتركة.
شكرًا الشاعر أحمد الملا، شكرًا شباب الشرقية بنات وأولادًا، رجالاً ونساء، شكرًا لنجلاء وعادل وخالد وسوسن علي الدميني، شكرًا جمعية الثقافة والفنون فرع الدمام على السماح لنا بأن نكون شاهدًا على سيرة شاعر قدم أعظم ما يقدمه الأبطال للأوطان روحه وشعره.