فوزية الجار الله
يحدث أحياناً أن تشغلني فكرة ما، أبدو أنا وهي مثلما شخصين وجدا نفسيهما نزيلين في غرفة واحدة، لا يعلم أحدهما مشاعر الآخر تجاهه، الوقت يمضي ولا بد أن يحدث بينهما حوار ما ولأنهما لم يصلا بعد إلى الحد الأدنى من الثقة بينهما فلم ينبس أحدهما بعد ببنت شفة، تارة يتأمل أحدهما الآخر وتارة يغض الطرف، وتارة يترنم أحدهما بصوت هامس بأغنية ما وتارة ينشغل بقراءة صحيفة أو مطبوعة وجدها حوله، يتأملان بعضهما وأنا أتأملهما.. طال انتظاري لخروجهما من حالة الصمت وفي لحظة حان الخلاص من تلك اللحظة الساكنة، وجدت اسماً أدبياً كان يوماً متألقاً في ساحة الثقافة يخطر بقوة في ذاكرتي..
الاسم الشهير الغني عن التعريف والراحل عن دنيانا هو ادوارد الخراط المتوفى في ديسمبر 2015 عن عمر يناهز الـ 89عاماً.. ذلك الكاتب الذي استمتعت كثيراً بالاستغراق في إبداعه، حيث كان يملك لغة عميقة شديدة السحر والعذوبة، قرأت له الكثير من الروايات والكتب، لطالما توقفت أمام عباراته وأعدتها مرة تلو أخرى رغبة في مزيد من المتعة.
في أحد لقاءاته التي وثقها في كتاب له بعنوان (مراودة المستحيل) تحدث عن علاقته بالنشر، وبعد أن ذكر أن مجموعة من كتبه قد نفدت من الأسواق، قال مستطرداً: (هذه الظاهرة ظلت تؤرقني حقيقة زمناً، لم أجد حلاً، تصورت أن الناشرين أغبياء ببساطة لأنهم يستطيعون أن يكسبوا.. حتى يقول: (ولكن أنا لا أسعى، فلدي هذا النوع الذي يكاد يكون خاطئاً من الاعتزاز بالكرامة، وأتصور أن الناشر يجب أن يسعى هو وأنا لا أسعى إليه، وأريد أن أضع هذا قاعدة ولو كان فيه تضحية كبيرة بالنسبة لي، معنوية بالطبع، لأن المسألة المادية غير مطروحة من الأساس.. وفي موقع آخر يقول: (ولكني أظل أقول إن دور الكاتب في المرحلة الحالية أن يحرص، أشد الحرص، على ما بقي له، وهو الكرامة، حيث لا ينتقل من باب إلى باب ولا يسعى للنشر بل يجب أن يسعى إليه الناشر ورئيس التحرير والمحرر ولا يسعى هو إليهم، ليس هذا على الإطلاق تعالياً أو انعزالاً في «برج عاجي» مزعوم، بل هو أساساً حفظ لكرامة الكتابة نفسها.. طبعاً هذه إحدى النواحي الجزئية في ظاهرة ثقافية متردية..).
الله يا ادوارد كم كنت جميلاً! كم أغبط ذلك الكاتب لأكثر من سبب أهمها: ذلك التأني والعمق الذي كان سمة للكتابة لديه.. ثانياً: أنه عاش في تلك الفترة قبل انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. ماذا لو عاش يومنا هذا ورأى ذلك الإيقاع السريع للمعلومة وللثقافة التي تحولت إلى ثقافة سطحية للكثير من القراء مدمني الإنترنت؟!.. وكيف سيكون رد فعله على ذلك التهافت على النشر دون عمق أو تركيز أو دراسة؟
... ... ...
* العنوان مقتبس من قصيدة للشاعر «مَعين بسيسو».