د. حسن بن فهد الهويمل
لم يبق على أديم أرضنا العربية المنكوبة قريةٌ آمنة مطمئنة، ولا قَدَمُ صدقٍ ثابتةٍ، لم تَزِلْ، إلا [المملكة العربية السعودية]، وبعض دول الخليج. وإن كان أمْنُها مخْترقاً، واستقرارُها مهدَّداً، ومكوناتُها السُّكانيةُ مُتَملْمِلةً.
والإيجاف بالأقلام، والألسنة الحداد مُوَجَّهٌ جُلُّه إلى [أرض المقدسات]. وكأن العملاء المأجورين قد فرغوا من تدمير أمتهم، ولم يبق عليهم إلا تلك البقعة الطاهرة التي تشكل صمام الأمان للعالمين العربي، والإسلامي.
لقد فَسَقَتْ تلك القنوات، وَرُغَاتُها، وَرُعَاتُها عن أمر ربها، وكفرت بأنْعمه، فأذاقها عار الكذب، ومذلة الافتراء، فهانت حين اتَّشحت بأردية الزور، والبهتان، وكانت قذى في وجه الإعلام العربي، ووصمة عار في جبينه.
وإغراق تلك الشراذم في فحش القول، نزع عن وجوهها الباسرة ستر الحياء، فأضحت مثال العهر، والتفسخ. وتمثلت فيها مقولة:- [إذا لم تسْتَح فاصنَع ما شِئت].
[المملكة العربية السعودية] وإنسانها كأي أمة، وكأي أناس، لهم، وعليهم. إذ لا أحد منهم يدَّعي العصمة لنفسهِ، ولا أحد يدَّعي الفوقية، ولا نزكي على الله أحداً، ولن نجد من دونه ملتحدا.
وليس ببعيد أن يضيق البعض في المشهد السياسي ببعض ما تأتي به المؤسسة السياسية في [المملكة]، أو بما يأتي به إنسانها.
ومن ثم لا بد من الاختلاف. ولا بد من المراجعة. غير أن المتداول من بذاءة القول، وافتراء الكذب، لا يمت بصلة إلى المراجعة المشروعة. وهذا يُعزى إلى الفشل في إدارة الأزمات.
النقد الموضوعي المنصف لا يأنف منه إلا عائل مستكبر، أو خائف يترقب. والراصدون، وكتاب الرأي المنصفون الواقعيون مرايا مقعرة، يرى فيها الأواب نفسه، ويقوِّم من خلالها عوجه، ويستدرك بها زلته.
والناس خُلِقوا ليختلفوا، {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، وليبنوا رؤاهم، وتصوراتهم من جدل الاختلاف. والنابهون من يحسنون إدارته، والإبقاء على الود.
هكذا نحن، وهكذا يجب أن نكون، ترحب صدورنا للنقد البناء، والتساؤل المعرفي. استياؤنا، واشمئزازنا، واستنكارنا لا يكون لمجرد الاختلاف، ولا لمجرد النقد، والمساءلة. وإنما يكون من تصرف شرذمة قليلة، تتقول علينا كل الأقاويل، وتلفق التهم، وترمي بدائها الأبرياء، ظناً منها إن عيون الرقباء زائغة، أو نائمة.
استياؤنا من فضوليين يبيعون قدراتهم الكلامية في سوق النخاسة الإعلامية، ويخرجون على الملأ بكل ما يحملونهُ من وضر الافتراء، واستبطان الإفساد.
مِرَاؤُهم الظاهر، والباطن معدودٌ من أنباء المفسدين. والذكر الحكيم يحملنا على التثبت، والتبين:- {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}.
هذا توجيه سار المفعول في كل زمان، ومكان. فنحن أمة مؤمنة تتحرى الصدق، ولا تقبل الكذب. فالمؤمن يكون بخيلاً، أو جباناً، ولكنهُ لا يكون كذَّاباً.
[حرب الإشاعات] من أخطر الحروب، وأشدها نكاية بالأمة، متى كثر فيها السمَّاعون.
ما لا ننكره أن فينا {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}. فبعض المجالس، والمنتديات عامرةٌ بترويج الأكاذيب، والمفتريات.
ودعك من أكل [السحت] المتمثل بـ[ظاهرة الفساد] التي بادرت الدولة إلى قطع دابرها، حين بدأت من القمة، ولم تخش إلا الله.
إن تلك الحملة المباركة ستقطع دابر الفساد، وتحفظ المال العام.
وكم نحن بحاجة إلى حملة مباركة أخرى، تقطع دابر الإشاعات، ومُرِّوجِيها، والمخدوعين بما يفتريه المغرضون.
نحن بحاجة إلى عزمات قادتنا لتنوير الأذهان، وتحصين الأفكار، وطيب المطعم، والإيقاظ من الغفلة.
نريد حملةً تكشف عوار المأجورين، الذين يفترون الكذب. حملةً تقطع دابر التهريج الفارغ، وتحول دون تزكية النفس، والأنفة من النقد، والمساءلة.
[حرية التعبير] مطلب رئيس، فالمسيرة المباركة لا بد أن يكون لها روادها الذين لا يكذبون أهلهم، ولا بد لها من حماة للساقة، يكبحون جماح المرجفين الذين يشيعون قالة السوء، ويفسدون في الأرض، ولا يصلحون.
قدر [المملكة] أنها لم تكن هامشية، بحيث تتقحمها العيون. إن لها حضورها، وتأثيرها على كافة القرارات الدولية، ومن ثم فأصحاب المصالح غير المشروعة، وأصحاب الأطماع التوسعية، والمسكونون بنهم التصدير للمبادئ، والمعتقدات يضيقون ذرعاً بها.
وكل همِّهم توهين عزماتها، وتفكيك لحمتها، والتشكيك بمواقفها. ومن اليسير تجنيد المرتزقة من ضعاف النفوس، ومعدومي الكرامات، القابعين في المنافي، ممن لا هم لهم إلا بيع ماء الوجه، وتنفيذ ما يطلبه أعداء القيم، والضائقون بالمواقف الشريفة.
[المملكة] رأسٌ في سياق عالمها، والرأس كثير الآفات، وهي إذ تكون حاضرة، فاعلة، فإنها ستكون هدفاً للمؤامرات، وغرضاً للدسائس، إذ [ليس يُرْمى إلا مُثْمِرُ الشجر].
لقد أوذينا، وجندت قنوات، وأقلام، وحناجر، لغمط مواقفنا. ولما نزل نكشف الزيف تلو الزيف، ونطفئ اللهب تلو اللهب، ونقر في الواقع الصدق الصراح، ولكن [الكثرة تغلب الشجاعة]. كما يقال.
لقد واجه الرسول صلى الله عليه وسلم المنافقين، واحتمل أذاهم، ونزل القرآن الكريم يكشف مفترياتهم، ويتوعدهم. ولما أُسقط في أيديهم، أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون:- {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
وجاء الرد الساخط:- {أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
أما اليوم فالتأييد الرباني لا يكون وحياً يتنزل، ولا مكتوباً يقرؤه الناس إلى قيام الساعة، ولكنه نصر بالرعب، وتثبيت للأقدام.
إن على إنسان هذه الأرض أن يأخذ حذره، من مَيْلةِ الأعداء، فالمتربصون بنا يتمتعون بجلد الفاجر، ومُخاتلة الحاقد، ومُرواغة الماكر.
فلنأخذ حذرنا، ولنقف صفاً واحداً،:- {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}.
رهان الأعداء على [الجبهة الداخلية] فمتى تصدعت، نجح رهانهم، وهان عليهم دَعَّنا في دوامة الفتن، وحمامات الدم.
كلمتهم البائسة:- [أنَا الغَرِيْقُ فَمَا خَوْفِي مِنَ البَلَلِ].وكلمتنا الشامخة:- {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ}.
لقد سقطت كل الأقنعة، وبدت كل السوءات، وما عادت قنوات الضرار، وداعموها يَخْفَون علينا.
وماكان بود العقلاء أن تكون أوضاع أمتنا في سفال، والناس من حولنا يجنون ثمار تناحرنا.
المد [الصفوي] ضعيفٌ، يستمد قوته من تنازعنا، وفشلنا، وذهاب ريحنا. و[الطائفيات] المتسلطة أقليات مُتَّقِيةٌ أخذت تُوَسِّع نفوذها في أجواءِ الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق.
وما لم تتدارك الأمة أمرها، وتُصَفِّي خلافاتها، وترفع سائر ملفاتها المتَوَهَّمةِ، فإنها ستكون خَبَراً بعد عين.