د.عبد الرحمن الحبيب
وصل لصديقك مسج مثير.. أول ما خطر على باله أنه سيلفت انتباه جميع أعضاء «قروب» الواتساب، لم يفكر بمدى جدية الشخص المرسل، أو درجة ثقة المصدر، أو أن المرجع مزيف، لم ينتبه للتاريخ، لم يلاحظ عدم قابلية الخبر للتصديق العقلي.. كان لديه شعور طاغٍ بالإرسال.. لماذا؟
في مقالات عدة طرحت عن صناعة الجهل في الإنترنت والأسباب المقصودة من جهات محددة لأهداف سياسية أو اقتصادية غير بريئة، وسبل كشفها.. لكن أغلب الأكاذيب المطروحة في «السوشل ميديا» هي من النوع الذي لا يفيد جهة سياسية أو اقتصادية مثل الخرافات التي تأتي عن فوائد أو أضرار الأطعمة أو النباتات، أو سلامة وخطورة بعض المنتجات.. أو أحداث اجتماعية فاقعة، أو وسائل الرفاه اليومية كجهاز الجوال الذي سينفجر في وجهك وأنت نائم أو المايكرويف الذي سينفجر على بطنك وأنت جائع..
لماذا يكذب الناس في «السوشل ميديا»؟ على مدى عامين بحثت في الدراسات ومقالات خبراء علم النفس الاجتماعي محاولاً البحث عن الإجابة، لكن لم أجد دراسة متكاملة مقنعة منهجياً؛ فلذت بالصمت، لكن عندما سُئلت عدة مرات في الأشهر الأخيرة، قررت الكتابة.
أولاً، هذه الأكاذيب لا تنطلي فقط على الناس الذين لديهم عقلية طيبة جاهزة للتصديق إذا أتاهم الخبر من عزيز «موثوق»، بل حتى أصحاب العقول الراجحة يتأثرون إذا أتى «المسج» مع نص بلاغي مؤثّر عن فقد أم لابنها أو وفاة طفلة بين يدي أبيها.. والأقسى تأثيراً إذا كانت صور مؤثّرة، أما الأدهى إذا كان فيديو يسلب الألباب فلا يدع لعاقل عقلاً.. شاحنة تدهس فتاة سارحة مع الجوال، رجل يدفع سيدة أمام قطار مندفع.. جوال ينفجر في رأس سائق سيارة فيظهر دماغه ملق على وجهه.. «يا أخي إذا كنت لا تصدق فأنت بلا قلب» قالها لي صديق!! لكن بعد فترة يتبين كذب وفبركة أغلب هذه الأخبار والمعلومات؛ فيقفز السؤال الملح على الأذهان: لماذا يخترعون الأكاذيب بهذه الدرجة؟
بداية لنطرح السؤال بطريقة منهجية: الذين اخترعوا هذه الأخبار أو المعلومات لماذا يكذبون، والذين نشروها لماذا استمرؤوا نشرها رغم سُخفها وبيان بطلانها للعقل البسيط فكيف للعقل الناقد؟ هنا محاولة لجمع شتات العديد من الدراسات حول هذا الموضوع، إضافة لملاحظاتي الشخصية..
لفت الانتباه والإثارة هما كلمتا السر في وسائل الاتصال الاجتماعي. من السيئ اجتماعياً أن تلقى رسائلك التجاهل، والأسوأ أن تلقى الرفض داخل المجموعة.. ستشعر بالإحباط، وستبذل جهدك في المرات القادمة لتحسين موقعك الاجتماعي عبر الإثارة. ليس بالضرورة أن يكون الإنسان واعياً تماماً أنه يقوم بنشر الزيف من أجل الإثارة، فهو بالأساس لا يقصد الخديعة أو الإضرار بالآخرين، كل ما يريده هو لفت الانتباه، قد يظنها صحيحة، أو على الأقل ليست خاطئة تماماً في نظره.
بل إنك تجد أحياناً خبيراً متخصصاً في الموضوع الذي يتطرق له، لكنه من النوع الشاطح بين أقرانه المختصين، الذي لديه أوهام وخيالات عارمة في كل شيء، ولا يُعتد كثيراً برأيه بينهم، ولكن في «السوشل ميديا» من يدري عن شطحاته، عندما يضع أمام اسمه الدكتور الفلاني في المؤسسة الفلانية العريقة.. سيثق فيه كثير من الناس، لولا أنه بعد بضعة أيام أو أسابيع سيأتي شاطح مثله متخصص وخبير ومتأزم اجتماعياً ليقول كلاماً عجيباً مناقضا.. ليستمر مسلسل الإثارة باللعب على قلق الناس في الصحة أو السلامة..
فالإثارة ليست فقط للمتعة، بل أيضاً للتحذير من خطر وهمي داهم.. فالتحذير من الخطر هو أقوى أنواع لفت الانتباه. في الواتساب هناك منافسة يومية حامية الوطيس على من يجيء بأهم «مسج» ويلقى اهتمام الجميع وردود أفعالهم. قد تكون هذه المنافسة بوعي أو دون وعي.. وقد يكون أغلب هذه الإثارة الكاذبة ذات نوايا بريئة..
الكذب البريء يتأسس لدى الإنسان منذ طفولته عندما يتصنع البكاء لينال اهتمام أمه في الدائرة الاجتماعية، وعندما يكبر - تقول الدراسات- قد يُبقي هذه الطريقة غريزياً (في لا وعيه) لنيل اهتمام الآخرين من أجل تحسين موقفه في العلاقات الاجتماعية. لا رقيب ولا حسيب في وسائل التواصل الاجتماعي على هذا النوع من الأكاذيب، إلا ما قد تتدخل به جهة رسمية استشعرت خطراً صحياً أو سلوكياً من معلومة مضللة..
أما أشد أنواع الكذب خداعاً، فهي حين يقوم فرد بتمثيل فقرة فيديو مؤلمة جداً له، أو مهيمنة جداً، فلا نتوقع أنه يعمل بنفسه ذلك، ونظنها غير مصطنعة. هذه تسمى متلازمة مانشاوسن: الإيذاء المتعمد للنفس أو التظاهر بالأذى كوسيلة للحصول على التعاطف والاهتمام. أمثلة ذلك كثيرة فيما يصلنا على الواتساب: من يقع في حفرة أثناء الرقص، أو من يسقط من الدور الأول أثناء المزح..
لو أعيد التركيز والانتباه في كثير مما يصلنا من الفيديوهات سيتبين مقدار ضحالة التمثيل في بعضها.. لكن لا وقت لدينا للتركيز، بل صرنا نلتهم ما نرى ونمضي لما بعدها في مسلسل الأكاذيب.. إنها ثقافة إنترنت عالمية تشكلت وسجلتها الدراسات بوضوح وبأسف..