د. شاهر النهاري
عند بزوغ شمس الإسلام كانت اللغة العربية الحجازية الفصحى نادرة التواجد حتى عن أقرب القرى إلى مكة المكرمة، وكانت تختلف كثيرا عن لغة منشئها في اليمن.
وحصل أن توسعت الفتوحات الإسلامية فانتشرت الفصحى مع نشر تعاليم الدين وكلغة للقرآن في الأقطار القريبة والبعيدة والتي لم تكن تعرف الفصحى وبعضها لا يعرف العربية، فكان لكل منطقة منها لهجته أو لغته البشرية الخاصة، فنتج عن ذلك دمج الفصحى مع تلك اللغات واللهجات، شيئا فشيئا.
وأثناء تحول تلك الألسنة للعربية في تلك البلدان أصبحت تستخدم على شكلين أحدهما هجين مختلط باللهجة القديمة واخر فصيح عند من لهم صلة قوية بالتعليم والتدوين الديني، أو بالبحث المعرفي، فبقي لسان الأغلبية منهم ومهما تحدثوا بالفصحى يدل على كنه أصولهم ومجتمعاتهم البشرية القديمة، وهذا ما ميز اليماني عن الشامي والمغربي عن الخليجي والعراقي عن المصري وعن السوداني، والتونسي والموريتاني والصومالي عن الأندلسي بكيفية تعاملهم مع مخارج حروف الفصحى وبامتزاج مع لهجاتهم ولغاتهم القديمة لم يستطيعوا التخلص منه رغم مرور القرون، ورغم التعمق في دروس الدين وتحفيظ القرآن والأحاديث والتوطين للغة الفصحى.
حقيقة يجب الوقوف عندها فكان يحدث ذلك في كل نجع ومدنية حتى غدت في يومنا خلة واضحة تميز الألسن، حتى بين قبائل الجزيرة العربية، فلكل قبيلة لهجة لا تمحى ولا تتبدل، مهما حرص أصحابها على التحدث بالفصحى.
وبمرور القرون وعلى تلك المساحات الجغرافية الشاسعة حاولت تلك الشعوب المتعددة الأصول التمازج بلغة واحدة، وقد تكون نجحت بعض الشيء في التقارب، ولكنها ظلت مرتسمة بتعدد اللهجات، وهذه مميزة للعربية، ومن غير المنطقي أن نسمع من يعيبون الزمن الحالي ويتهمون الشعوب العربية بأنهم تركوا الفصحى وأنكروها، وهي لم تكن موجودة بالشكل المثالي الموجود في القرآن الكريم إلا في أضيق الحدود، فكون رواة الحديث كتبوا دراساتهم بالفصحى، لا يعني أن كل من كانوا يحيطون بهم يتحدثون الفصحى مثلهم.
وكون خطيب مثل قس بن ساعدة مبدع في صياغة الفصحى أو أن كاتباً مثل العقاد، أو شاعر مثل القباني وضعوا أمثلة تحتذى للفصحى، لا يعني أن مجتمعاتهم اللصيقة بهم كانت كذلك بالمطلق.
اللغة العربية موجودة بجميع التركيبات واللهجات المتناسبة مع التاريخ والجغرافيا ومع أصول الشعوب، ولم يحدث يوما أن كانت متوحدة، ورغم ذلك تظل محفوظة من خلال القرآن الموحى، ومن خلال الأشعار والكتابات الأدبية الضاربة في الجودة، ومن خلال التعليم المستمر للأجيال.
وفي كل يوم يحتفل فيه باللغة العربية نسمع من يتباكى ومن يندب الحظ، ومن يسيء إلى شعوبنا العربية المختلفة، ويؤكد قصورهم، ويتهمهم بفقدان لغتهم، وهم على ما هم عليه منذ القرون الأولى.
صدقوني أيها المتباكون مجتمعاتنا بخير، ولغتنا العربية بخير، وقد آن لنا أن نهتم بتطويرها وتليين فصحاها، وتحفيزها لتستوعب الجديد من العلوم والمصطلحات، وإيصالها عبر وسائل الإعلام والتواصل المتطورة إلى كل أنحاء الدنيا، على ألا نحرم مجتمعا من لذة وأصالة لهجاته المتميزة، التي تعود لآلاف السنين، وهي أيضاً حرية بالاهتمام والإشهار كنوع من التنوع الثقافي الغني، الذي يجب أن نفتخر به، وألا نظن أنه يهد لغتنا الفصحى، أو يعاديها.