قاسم حول
في المجلد السادس من المجموعة الكاملة للباحث والعلامة العراقي الراحل «الدكتور علي الوردي» كرسه لشخصية مؤسس المملكة العربية السعودية جلالة الملك عبد العزيز آل سعود. ولكن دار الوراق أصدرت الفصل الخاص بشخص الملك المؤسس بكتاب مستقل يحمل عنوان «قصة الأشراف» وهو دراسة مستفيضة وموضوعية حين كان الملك المؤسس في دولة الكويت وهو يحدث أقرانه بأنه سوف يستعيد مجد أسرته. ذكرتني طريقة البحث وحقيقة البحث بشخصيات وليم شكسبير ماكبث ويوليوس قيصر وهاملت عندما يخوضون الصراع بأناقة ويفكرون بحساب ويقولون بحساب كلمات محددة وذات دلالات في دراما الواقع ويتحرك المستشارون ويصغي الملك ويجمع الاستشارات ثم يتخذ قراره الذاتي فيحقق الانتصارات تلو الانتصارات حتى تأسست المملكة العربية السعودية ووصلت إلى واقعها المعاصر. ويشبه الباحث العراقي شخصية الملك المؤسس بالشخصيات الحالمة من شخصيات الكاتب البريطاني «برناردشو».
يوم قرأت البحث وجدته مادة لفيلم سينمائي فكتبت سيناريو «الملك» وكنت أطمح وأحلم أن أنتج فيلما سينمائيا يرتقي إلى مستويات يولويوس قيصر أو ماكبث وهاملت وأجسد شخصية الملك على شاشة السينما بنفس المستوى الدرامي لتلك الأفلام وتلك الشخصيات المؤثرة في التاريخ.. ولكن، ما كل ما يتمنى المرء يدركه ..!
فكم كان جميلا لو أن قرار فتح أبواب صالات السينما اليوم أمام جمهور المملكة تزامن مع إنتاج فيلم «الملك».
القرار الشجاع لسمو الأمير محمد بن سلمان ضمن قرارات اجتماعية شجاعة تدفع بالمملكة وجيلها الشاب نحو حتمية الضرورة وحتمية المعاصرة وحتمية تألق الوعي لما تعطيه السينما وفنها الهادف من قيم فكرية وفنية جمالية. فالسينما هي مجمع الثقافات التي يمكن أن تعرض بمجمع الصالات السينمائية التي سوف تفتح آفاقا رحبة أمام جيل يستهدف الوعي ويتخلص من الوحدانية، فالسينما هي الفن السابع الذي أطلقه الفرنسي الإيطالي الأصل «ريتشيوتو كونودو» المولود في إيطاليا عام 1879 أطلق تعبير الفن السابع على السينما، لأن السينما هي جامعة الفنون والآداب والثقافات التعبيرية والبنيوية لستة من الفنون، لذلك فهي الفن التشكيلي في حركة فيها من طبيعة الفنون التشكيلية ومن طبيعة الفنون الإيقاعية في نفس الوقت، لذلك فهي الفن السابع وثقافة الثقافات. أهمية فن السينما وصالات العروض السينمائية سوف تكون متسمة بالمستوى الأنيق والهادف والهادئ من أفلام المجتمع الأمريكي ومن أفلام الواقعية الإيطالية والواقعية الجديدة ومن الأفلام التاريخية والأفلام العلمية المعاصرة التي تكشف إبداع الخلق وتسمو بمخيلة المشاهد إلى آفاق الدنيا العظيمة والكون الغامض لنجد جانباً منه على شاشات السينما.. ولعل أهم ما يحققه القرار الشجاع هو الحرية في المشاهدة وممارسة الحرية بأعلى أشكالها التي تبني الشخصية المعاصرة، فالإنسان يذهب هو إلى صالة السينما ولا تأتيه إلى البيت محملة بالتبر حينا وبالتبن أحيانا أخرى تبثها شاشات تلفزيونية لا تستهدف في أغلبها سوى تناول الثقافات السهلة والرخيصة أحيانا، فيما المشاهدة السينمائية تتميز وتمتاز بالحرية.. حرية الاختيار، فالمشاهد يذهب بنفسه وبحريته ويختار شكل ثقافته، فتأتي المشاهدة ضمن طقوس العرض السينمائي في الظلام أمام شاشة واسعة عريضة ورحبة يسقط عليها الضوء ولا يبث منها نحو عيون المشاهدين، شاشة بيضاء فضية تنقلنا إلى عوالم لا نعرفها وتزودنا بزاد الثقافات والعلوم والمعرفة. فلقد جلست يوما في معرض للبث بهولندا وسط ظلام الصالة وشعرت بأنني أرحل إلى الكواكب والنجوم وحلقت بين عوالمها الساحرة الجمال، فلقد نقلني الفيلم ونقلتني طبيعة الصالة وتقنياتها إلى الفضاء الخارجي بين الشموس والأقمار والنجوم في حلم لن أنساه ما حييت.. هذه الثقافات الحرة والمسؤولة في حريتها كانت تنتظر الشجاعة التي تقتضيها الضرورة ويقتضيها وعي الضرورة. فجاء القرار اشجاع المتحضر من قبل سمو الأمير محمد بن سلمان.
إن قرار بناء صالات السينما سوف لن يبقى ساكنا في عالم المشاهدة، بل سيفتح آفاقا جديدة تتحمل مسؤولياتها مؤسسات الثقافة في المملكة وفي المقدمة منها إقامة مهرجان سينمائي دولي ينتقي أجمل الأفلام الروائية والوثائقية ويفتح آفاق المران السينمائي ويزرع بذور الثقافة السينمائية وكتابة السيناريوهات التي تكشف الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي أمام المتلقي الذي سوف يتفاعل جدلاً مع وعي التطور الحضاري وبالضرورة الجمالي وقيمه الإنسانية. وبالتالي سوف يتأسس جيل سينمائي ينتج الأفلام السينمائية الروائية والوثائقية فتنضج الثقافة المرئية التي تؤثر اليوم في العالم وفي الحياة فيصبح جيل المملكة العربية السعودية جيلا منتجا للإبداع وليس مستهلكا له فحسب. وتدخل الثقافة المرئية في جوانبها الفكرية والتقنية مناهج التعليم الأكاديمية مثل كل الجامعات في العالم التي تشكل ثقافة الصورة جانبا هاما في مناهج العلم والتعليم.
افتتاح صالات السينما ليست مجرد مجمع من المرمر والمقاعد القطيفة وشباك التذاكر وظلام المكان وضوء الشاشة الواسعة العريضة، فهذا ليس سوى شكل القرار، أما مضمون القرار الشجاع والحضاري، فهو عالم الحرية الذي يرفض الضيافة الثقيلة لجهاز التلفزة وما يفرضه من الثقافات السهلة والرخيصة في كثير من الأحيان والذي يفرض نفسه وبرامجه الإستهلاكية على العائلة ضمن الأبواب المغلقة فيفتح المواطن الباب ليخرج نحو عالم رحب فيه من الثقافات، ما يكون شخصية الجيل الآتي بمسؤولية عالية. وهذا القرار يتطابق تماما مع تلك الوقفة التي وقفها مؤسس المملكة على حدود الكويت وهو ينظر إلى الحجاز ويشكل حسب رؤية الدكتور علي الوردي «الشخصية الحالمة» في أعمال برناردشو، فيأتي قرار سمو الأمير محمد بن سلمان متطابقا تماما مع ذلك الحلم، بل هو التفسير الواعي لذلك الحلم، لدولة تقوم على مبادئ الحياة المعاصرة وبناء الإنسان.. فالسينما هي البديل الموضوعي لثقافة التلفزة وكل ما تحتويها من أفكار مشوشة ومن موجات كهرومغناطيسية تبث على عيون أهل المملكة وعلى أفكارهم بالضرورة..!
من المؤكد أن المهندسين المعماريين لبناء صالات السينما المعاصرة ستذهب مخيلتهم نحو أحجام الصالات الخاصة بالأفلام الروائية وأخرى صالات خاصة بالأفلام الوثائقية بالصورة والصوت المجسم وقيمة التلقي في المشاهدة السمعبصرية، وستكون صالات فيها حساب للواقع الاجتماعي وستزدهر الثقافة المرئية بأجمل دور للمشاهدة السينمائية. فتحية للقرار الجميل وآفاقه المستقبلية في بناء الشخصية المعاصرة لمشاهدة آفاق الدنيا بحرية واعية ومسؤولة، هذا القرار الذي سوف ينعكس إيجابا على ثقافة الصورة المتحركة، وتأثيرها السيكولوجي والأمني والفيزيائي، وتأثيرها الثقافي على بناء الشخصية المعاصرة.