د. إبراهيم بن محمد الشتوي
سنبدأ بالصوت الأول وهو صوت الشاب المراهق الذي يتذكر أبناء جيله الأولاد وهم يتعبون في أعمال الزراعة مع أهليهم، أو يترددون في الكتاب لأجل أن يتحصلوا على شيء من المعرفة، أو يساعدون آباءهم في محال التجارة والبيع والشراء، ثم يؤوبون إلى منازلهم، وقد بلغ التعب واللغب منهم كل مبلغ، فلا يجدون في انتظارهم إلا طعاما مصنوعا من بر أو تمر، ولبن، وجرعة ماء أو سمن وربما انضاف إليه شيء من الخلع، أو «القفر»، أو اللحم، فيأوي إلى فراشه بانتظار غد مشابه لما كان عليه.
فهو يشاهد ما عليه شباب اليوم، من لين العيش، ويسرها، ومن توفر وسائل التعلم، وقدرته على قضاء جل وقتهم مع لداته فيما يحبون أو يعود عليهم بالنفع خاصة مع الاستغناء عنهم بنفر يأتون من أقاصي البلاد ليحلوا محله، ويقوموا بعمله، فتهيج في نفسه دواعي الحزن والألم، ويتمنى أن يكون قد عاش أيامه الخوالي كهذه الأيام، أو أن جيله حظي بمثل ما يحظى به أبناء اليوم من رغد العيش، ولينه.
هذا الصوت الحزين يظهر باللغة التي يستعملها (الكاتب) في تصوير أفعال شباب اليوم كما في الكتاب، فهي لا تقوم على شعور (الأب) وحده الذي ظهر فيه الصوت على مستوى الخطاب الرسمي للكتاب، حيث المودة، والرحمة، والاستمتاع بما يفعله أبناؤه، ويعيشونه من لين العيش هو في الحقيقة من كسبه هو وجهده، لكنها تشي بمشاعر أخرى حيث الوقوف على تفاصيل مشهد فعل الأولاد:
«تدخل البيت بعد أن لعبت في الحديقة ما طاب لك أن تلعب، فتتخلص من «فردة» من فردتي حذائك عند الباب الخارجي، وتقذف بالأخرى، قذفك بالكرة بعيدا. ثم تتلوى مسرعا مع الممرات في البيت، حتى تصل إلى غرفة المطبخ، لاهثاً من الركض، وساخطا على العطش الذي اضطرك إلى قطع اللعب، وتختصر المسافة بين باب المطبخ والثلاجة بالقفز في الهواء.
تفتح باب الثلاجة بعنف، وتمد يدك بصلف، يعضدك زملاؤك، تبحثون بين محتوياتها عما تريدون. فهذا شراب معلب، وهذا آخر معصور، وهذا ثالث غازي، وهذا ماء قراح. تنحون هذا، وتبعدون هذا، وتقلبون هذا، وتنكسون هذا، وتسقطون رابعا، وتقيمون خامسا، وتصدون عن سادس، إلى أن تستقروا على أحدها، وقد تختلفون».
فالتتبع الدقيق للمشهد من لحظة (دخول البيت)، والحديث عن طريقة خلع الحذاء التي تدل على العجلة، واللامبالاة، والفصل بين مرحلتي اللعب بالماء، وسواها من المرطبات، لم تكن لتستقر في ذهن أحد، وتشكل نوعا من الترف، والدعة لو كان الأب قد عاشها لو كان شاباً، وربما يقول قائل: إن فكرة الكتاب تقوم على الموازنة بين زمنين، أو حالين، ولا معنى لهذه الفكرة لأنه لو لم يكن الاختلاف لما ظهر الكتاب.
وهذا صحيح من جهة، ولكن من جهة أخرى، فإن المقارنة، والاختلاف لا تتطلب هذا التتبع الدقيق لمشهد (الابن) من تطويحه لحذائه إلى عودته للعب، كما أنها لا تتطلب هذه اللغة في تصوير المشهد حيث التكرار، والترادف، ونحوها لبلوغ حاجة في نفس المتحدث.
فجملة «بعد أن لعبت في الحديقة ما طاب لك أن تلعب»، تبين مقدار ما يشعر الكاتب به من أسى تجاه اللعب الذي يصيبه الابن مما لم يكن لجيل الأمس السعة لينالوا شيئا منه.
ووصفه لطريقة فتح الثلاجة أيضاً حيث العنف والصلف، وعدم الاهتمام بها، وهي الطريقة التي لم تكن موجودة أيضا عند شباب الأمس حيث الحرص، والعناية الفائقة خوف خسارة الموارد، خاصة وأن وسائل الحياة في ذلك الزمن مع بساطتها تكون متاحة لأحد دون أحد، مما يعني أنها تدخل في مجال التفاضل بين فئات المجتمع، إضافة إلى ما يتطلبه العناية بها، واستعمالها للحصول على المراد من عناء، الأمر الذي يعني العناية بها، والحفاظ عليها بخلاف هذه الأيام إذ أصبح الجميع يملكها، ولم تعد تمثل ميزة لمن يملكها.
هذه اللغة ليست لغة (الابن)، على طريقة باختين حيث نجد ألفاظ الشباب وتراكيبه، ولكنها صوت دفين داخل (الأب)، تشي بنبرة حرمان من اللعب، وما يراه أمامه من المتع، تؤكده حضور (الابن) في خطاب (الأب) أحيانا كنوع من التفلت من وعي الكاتب لم يتمكن من منعه في داخل المقارنة، كما في الفقرة التي ختم بها مقطع الحديث عن الشاب المعاصر إذ يقول:
لا تعرفون حتى أسماء الأواني والأوعية التي يجلب بها الماء أو يحفظ، فكيف تعرفون آداب الشرب التي عرفها أبوك وجيل أبيك، والآداب التي أدب بها أبوك وأقرانه، وطولبوا بالمحافظة عليها، وعوقبوا على التهاون بها».
فختام المقطع هنا ليس من حديث الأب، ولكنه حديث الابن متدثرا نبرة الشيخ الحزين؛ حزين في ظاهر الأمر على حال (الابن) المعاصر، وحزين في باطنه على حال (الابن) الغابر.