د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
كان من (محاسن) الصدف أن تخاطبني مؤسستان ثقافيتان مختلفتان خلال شهر واحد، تطلبان مني تحكيم كتابين؛ للنظر في صلاحيتهما للنشر والطباعة، وكان من (مساوئ) الصدف أن يكون كلا الكتابين عبارة عن ديوان شعر!
لا أخفيكم بأني قضيتُ أياماً كئيبة، وليالي سوداء، وأنا أقرأ في هذين الديوانين، وأحاول جاهداً أن أنتهي من كلِّ واحدٍ منهما في أقصر وقت، ومما زاد من سوء الحال أني ما كدتُ أنتهي من الأول وتهدأ الغصَّة حتى وصل الثاني، فتوالتْ أيام الكدر، وتتابعت ليالي الشقاء.
والتساؤلات التي دارت في ذهني بعد كل هذا: هل يظن هؤلاء وأمثالهم أنَّ مَن عرف أوزان الشعر وبحوره يستطيع أن يكتب شعرا؟ وهل يعتقدون أنَّ تصفيف أبياتٍ متتابعةٍ بقافيةٍ واحدةٍ يكفي أن يُطلق عليه قصيدة؟ أم تراهم يتوهمون أنَّ مجرَّد كتابة مشاعرهم الخاصة على وزن معين يمكن أن يكون نصاً أدبيا؟ وهل يظنون أنَّ جمع مثل هذه النصوص أياً كان مستواها الفني يتيح لهم إصدار ديوان؟ والعجب أنَّ ثقتهم بما يكتبون تجاوزت ذلك، إلى الدرجة التي جعلتهم يتجرؤون على مؤسسات ثقافية وأدبية بطلب تبني طباعة هذا الغثاء ونشره؟
إنَّ تجربتي في قراءة كثيرٍ من الدواوين الشعرية مخيبةٌ للآمال، سواء هذه التي يُطلب مني تحكيمها، أو تلك التي تقع بين يديَّ بإهداءٍ أو غيره، حتى أُصبتُ بإحباطٍ شديد، ويأسٍ جعلني أعرض عن قراءة كثيرٍ من الدواوين الصادرة حديثا، خشية أن أصاب باكتئابٍ أدبي حاد، وأن أندم على كلِّ دقيقةٍ قضيتها في قراءة بيتٍ واحدٍ من نصوصٍ ضعيفةٍ رديئةٍ تحفل بها تلك الأوراق. إنني أدرك تماماً أنَّ في الساحة شعراء متميزين، وأنَّ في مشهدنا الأدبي إصدارات شعرية رائعة، غير أنَّ أمثال هؤلاء قليلون يُشار إليهم بالبنان، وأنَّ أكثر ما نراه هم أنصاف شعراء، لا يتقنون سوى الوزن والقافية، بل إنَّ بعضهم يجهلها، ولا يعرف كثيراً من الأسس والأركان التي ينبغي أن يقوم عليها النص الشعري المتميز.
وأعجب كثيراً حين أرى الدور الناشرة تتسابق في طباعة ونشر مثل هذه الأعمال الشعرية الضعيفة، ويزداد عجبي حين تتباشر الجهات الإعلامية ووسائل التواصل بصدورها، ويصل العجب منتهاه حين أرى الناس يتسابقون لاقتنائها، ولا أجد له سبباً لذلك إلا فساد الذوق لدى غالب المجتمع، وانخفاض مستوى الإدراك الأدبي لديهم؛ لبعدهم عن الفصحى، وانغماسهم في عامية أضحت تحكم ألسنتهم ليل نهار، كما أجد أن من الأسباب تنافس دور النشر على الكسب المادي البحت دون الالتفات -مجرد التفات- إلى جودة المنتج، وما دامت الذائقة الأدبية والشعرية لدى القارئ رديئةً فإنَّ إقباله على المنتج الرديء سيكون حتمياً، خاصةً إذا أبدعتْ دور النشر في طريقة الطباعة وفخامة التغليف وجمال التجليد، وتوَّج هذه المؤامرةَ الشاعر المتذاكي حين اختار عنواناً برَّاقاً لديوانه يكمل به اللعبة، ليقع القارئ المغفَّل في فخ هذا الإنتاج الضعيف المتهافت الذي لا يضيع وقته وماله فحسب، بل يزيد في فساد ذائقته، ويعطيه صورةً نمطيةً عن الإبداع الشعري بأنه على هذا المستوى أو قريب منه.
إن مجرَّد نظم أبيات لا يربط بينها سوى الوزن والقافية، أو تصفيف كلمات موزونة لا تحمل معنى ولا صورة، أو تدوين عبارات تخلو من أية قيمة فنية، أو تجميع نصوص ضعيفة التجربة والقيمة، قيلت في الصبا أو في مناسبة اجتماعية، كلُّ ذلك لا يسمح للمرء أن يصدر ديوانا، فالشعر أكبر وأرقى من ذلك كله، وإذا كنتُ قد دعوتُ في مقالات سابقة إلى التأني في إصدار الكتب العلمية، والتريث في نشر الروايات والقصص حتى تنضج التجربة، فإنَّ هذه الدعوة تتأكد بصورة أكبر حين نتحدث عن إصدار ديوان شعري؛ لأنَّ إنتاج الشعر الحقيقي البديع -في نظري- ليس سهلاً كما يظن البعض، إنه عصارة تجارب طويلة وخبرات عريضة، إنه نتاج قراءات كثيرة وثقافات واسعة متنوعة، إنه ثمرة معاناة مع الحرف ورحلة مع الكلمة، إنه موهبة وفطرة كما أنه اكتساب وإفادة، إنه القدرة على التميز في إبداع الصورة الجميلة، والتحليق في فضاءات الخيال الأخَّاذ، والبراعة في الوصول إلى أعمق نقطة في قلب القارئ وعقله، إنه انتقاء المفردة المناسبة وصياغة المعنى الدقيق، ورحم الله الفرزدق الذي مرَّت عليه أوقات كان فيها نزع ضرس من أضراسه أهون عليه من قول بيت من الشعر!