محمد عبد الرزاق القشعمي
سعدت بهدية الأستاذ الدكتور عبدالمحسن بن فراج القحطاني (بين منزلتين ..سيرة ذاتية ..الجزء الأول)، وهي في الحقيقة ليست سيرته لوحده بل سيرة مجتمع عاش فترة التحول من مجتمع منغلق يعيش على الكفاف إلى مجتمع منفتح بفضل العلم والمعرفة, إذ سبق أن سمعت منه أجزاء متفرقة من هذه المحطات المهمة في حياته.. إلا أنني قد عشت معها وتابعت مجرياتها من حياة البداوة حيث ولد في بيت شعر في وسط الصحراء - غرب جنوب نجد - قرب قرية (الرويضة) في منطقة القويعية، ومعاناته بفقد أمه وهو في أيامه الأولى .. وذهاب والده إلى الأحساء للتبضع من تمر هجر, وبقي هو وأخته - توأمته - محرومين من الحليب فصار عمهم - وقت غياب والدهم - يطهو لهم الأرز ويكثر ماءه حتى يتمكنا من بلعه دون مضغ. وحين عاد والده من الأحساء أخذ يبحث عن عنز أو شاة ليسقي من لبنها توأميه ..فذهب لابن أخته مؤملاً أن يساعده، فلم يجد منه إلا المكابرة والعناد .فقال: «أمسك الأب بصحن صغير في يده، وتوجه إلى حيث ابن أخته، ونادى عليه باسمه، فلما خرج إليه مد الصحن الصغير تجاهه، وسأله شيئًا من طبيخهم لرضيعيه حتى يتدبر أمرهما، فلم يتردد الآخر بدوره في مد يده نحو خاله، وأمسك بالصحن في سرعة ولهفة، فشعر الأب بقشعريرة تسري في جسده، وكأنه امتن لهذه الاستجابة السريعة، بالرغم مما دار في خلده وشعر به من جفوة... ولكن الرجل لم يلبث طويلاً حتى يتمادى في أحلامه وافتراضاته، إذ رفع ابن أخته يده ومعها بالصحن في الهواء وقذف به قدر ما يستطيع إلى أبعد نقطة يمكن أن تصل إليها قوته، ودون أن يبالي بما تستوجبه العادات والتقاليد والأعراف، فضلاً عن الدين في احترام خاله وتوقيره .. «بقي الوالد مع رضيعيه يعاني ما يعانيانه من جوع للحنان وللغذاء، وبعد شهر توفيت أخته - توأمه-رغم أنها في صحة جيدة عكس ما كان عليه هو. وكأنه يقول ذهب الأقوى وبقي الأضعف, فبقي الأب مع رضيع وثلاثة أطفال أكبرهم ابن العاشرة. حملهم بسيارة (قلابي) مع أمتعة بسيطة إلى العاصمة الرياض حيث ضرب أطناب بيت الشعر (حارة آل مسعود)، وبدأ بعد أيام في بناء حجرة واحدة من الطين وسقفها بالجريد وخشب الأثل، ولم يجد ما يشتري به باباً إلا أن يأخذ برميلاً ينزع عنه غطاءه، ويقص أسفله، ثم يفرده ليصبح قطعة مستطيلة من الصاج، واستعان على ذلك بتثبيت قطعتين طويلتين من الخشب على الضلعين الطويلين للمستطيل، ومن ثم جعل منها باباً لغرفته، دون تكلفة عالة، وبمهارة بسيطة»..
كبر الطفل وبدأ يلعب مع أطفال الحارة ودخل الكتاب وحفظ القاعدة البغدادية، فأصبح فتى مع دخوله المدرسة ثم المعهد العلمي، وأضحى شاباً مع دخوله كلية اللغة العربية..
يصف الرياض القديمة مع قدومه لها نهاية عهد الملك عبدالعزيز وبداية عهد الملك سعود..
يصف السور والحارات والألعاب الشعبية بتفاصيلها.. ولفت نظري بعض المسميات التي تختلف من منطقة إلى أخرى في نجد مثل قوله (المنظافة) وكنا ما زلنا نسميها (المقلاع) وتسميه (المنباطة) ونسميها (النباطة).. وعن غزو الجراد وذهابه للصيد وملء (الخيشة) من جراد (المكن) الغذاء المحبب عند الجميع، وقال إن الأمهات وبالذات في الحارات الشعبية يجلسن خارج البيوت ويمشطن شعر البنات الصغيرات ويفلين رؤوسهن من القمل.
وقال إن الرياض بدأت تستبدل منازلها من بناء الطين إلى البلوك الأسمنتي واختلط سكانها بين ((البدوي الطامع, والقروي الطامح))، وذكر المستشفى الذينسي اسمه والذي كان يقع جنوب البلدية، قد أضيف مقره إلى معهد الرياض العلمي والكليتين. وأذكر أن هذه تسمى (الصحية) وطبيبها الشامي المشهور (الطباع) في الستينيات الهجرية.
يذكر الرموز اللهجية التي كان يتداولها الصبية برموز سرية حتى لا يعرفها الكبار ومنها: (الشنشنة) و(الدندنة) و(الريحان)، وذكر نماذج من بعض قليلي العقل ومنهم من يتقدم المصلين ليخطب بهم بعد انتهاء الصلاة فيتكلم بكلام غير مترابط بل يشن الهجوم والشتائم على ما يراه غير مناسب فيقاطعه الصغار بقولهم (شعللها) فيذهب مسرعًا وهو يرتدي مشلحة (البشت)، وأذكر أيضًا أن هناك من يدعى (ابن سلوم) وكان كسابقه يخطب وينصح وينهى كلامه بلازمة كان يكررها كقوله: (حا حي حو حلها يابن سلوم).
توفي والده إثر حادث إذ دهسته سيارة صباح يوم 28-2-1384هـ فاستقبل أول فاجعة في حياته كالصاعقة.. وهو التاريخ الوحيد الذي يحدد به الواقعة في الكتاب.
تزوج الفتى وهو ما زال طالبًا بالمعهد ورزق بابنته الأولى. وأخذ يتردد على محل لبيع الصحف والمجلات بالقرب من المعهد ليقتني المجلات المحببة له مثل مجلة (العربي) الكويتية. وذكر أن هذا المحل وهو يعود لمن يدعى بالجريسي موزع الصحف والمجلات الوحيد بالرياض وقتها الشارع القري غرب شمال المعهد، وما زال الجريسي حتى الآن موزعًا للكتب وله مقر مشهور بشارع الوشم.