د. صالح بن سعد اللحيدان
كنت قد كتبت نقداً استقصائياً ينحو نحو المعالجة والبيان واستخلاص النتيجة من خلال الطرح النقدي التحليلي في المجلة الثقافية من الجزيرة، وذلك يوم السبت 28/ 3/ 1439 هـ - الصفحة الـ13.
وقد كان ذلك النقد حرياً به أن يمر كما مر غيره مما يطرح منذ أمد بعيد حول تقويم الأعمال، ما لها وما عليها، لولا أنني وجدت سيلاً من الاتصالات يدعونني من خلالها إلى مزيد من مثل هذا النقد الذي ابتعدت فيه عن دراسة الأعمال العلمية والأدبية سواء بسواء إلى ذاتية النقد الذي هو مقوم للأعمال، ويستخلص منه البحث والعودة من جديد لذلك الذي تم نقده حتى تكون أعماله ذات صبغة جديدة، تبعد كل البعد عن الخطاب المباشر أو كتابة المذكرات والتجارب على أنها قصة أو رواية أو أنه شعر أو إن شئت فقل ما يميل صاحبه فيه إلى التنظير أو البحث العلمي.
وهاأنذا من خلال هذه المجلة المرموقة أدخل من بابٍ إلى ساحة واسعة، وقد أكون من أوائل من يطرقون هذا الباب، ويبحثون عيوب الساحة، وينظرون من خلال العيوب لاستخلاص العلاج على أساس نقد متين؛
لعل القوم اليوم يبتعدون من خلال ما أطرحه عن مجرد الوعظ والإرشاد وبحوث النصيحة من هنا ومن هناك.
هذا الذي أتطرق إليه وجدت أن كثيرًا من العلماء والدعاة، ووجدت آخرين من الأدباء كطه حسين والعقاد
وإبراهيم بن عبدالقادر المازني وأحمد أمين، وخلق سواهم كثير، مثل الغذامي وحسن عواد وعبدالعزيز الربيع وأحمد شاكر من قبل، وكذلك البيحاني اليماني، وخلق لا يحصون عددًا، قد أوردوا آثاراً ونصوصاً، اجتهدوا في إيرادها دون تمحيص للسند الذي هو أصل صحة المتن، ولم يختلف في هذا علماء النقد التحليلي وعلماء الجرح والتعديل خلال القرون.
ولا جرم، فإن العلم صبغته صبغة الموهبة ظاهرًا وباطنًا كذلك الثقافة؛ ولذلك عبت على كثير من العلماء
في البلاد العربية، منهم كثيرٌ ينتمون إلى هيئات عالية، ومنهم أساتذة جامعات، فحينما أبدي لهم ما أبدي يقرون بأنهم إنما يعمدون إلى الآثار فينقلونها بعد تحقيق، ولكنّ بعضاً منهم يتساهلون في الأسانيد، أو أنهم ينقلون من كتب الحديث والأخبار والسير ظنًّا منهم أن آثارهم ونصوصهم مما يحسن السكوت عنه.
وفي المكتبات العربية في البلاد العربية وغيرها كثير من الكتب متعددة الأجزاء رأيت أن الأحاديث التي فيها
ويستشهدون بها ليست بذاك؛ وهذا يجعل القارئ يعتمد عليها، وقد يأخذ بها، بل قد يقررها، بل كذلك ينشرها، وهذا إنما يكون دون ريب لثقته بالمؤلف والمحقق من عالم أو أديب أو مثقف، وهذه - لا أشك - أنها تجر الأجيال إلى الاعتقاد بصحة هذه الآثار دون نكير.
واليوم لعلي في طرحي هذا من خلال هذه المجلة أساهم بأصل من أصول العلم القائم على سوقه؛ ليظفر ثمره يانعاً غير منقوص، وذلك بإيراد بعض الآثار التي يعتمدها بعض العلماء وبعض المثقفين فيريدونها كأنها ضربة لازب من كلام سالم كريم.
ولست أشك في أن من سوف يقرأ هذا النقد الجديد الذي أنشره اليوم لن يعارض، ولا أظنه كذلك، بل لعله قد يستنكر كيف أن مثل هذه الآثار مبثوثة تترا، وهي في حالة ضعف لا تقوم، أو في حالة وضع لم تصح، لا من حيث السند ولا من حيث المتن.
وكثيرًا عند كتابة المؤلفات في أصول النقد العلمي أو النقد الثقافي أو النقد الأدبي سيان كثيرًا ما يورد بعضهم بعض العلماء والمثقفين مثل هذا الأثر، ويكررونه كمن ذكرت أسماءهم آنفًا، وهم محل تقدير، وقد استفدت منهم كثيرًا. والأثر هو (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وهذا ضعيف، وهناك من قال إنه حسن، ولم أقف على هذا بصالح من قول سديد.
ولست أشك أن العلم ولست أشك كذلك أن الثقافة والأدب معها إنما هي مخاض من العقل والقلب معاً، لكن كليهما يحتاج إلى ثقيل القول من نص صحيح، وإلا فيعتبر ما يكتب في هذه المجالات الثلاثة إنما هو طرحٌ
وبحثٌ يقوم على شفا جرف ليس إلا ذاك (وخلاك ذم).
ولعلي أشدد القول على صحة الآثار سنداً ومتناً خاصة فيما يتعلق بالأماكن والظروف والعبادات والمعاملات..
ومن نافلة القول أقول إن الأستاذ عبدالوهاب أبو سليمان - وهو أستاذ جليل أقدره كثيرًا - قد أثبت مثلاً أن موضع مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - هو مكان المكتبة اليوم, وقال: إن هذا متواتر. وليته مثلاً عرف التواتر عند المحدثين الذين هم أصل الإثبات والنفل، وليس التواتر عند المؤرخين؛ لأنهم لا ينظرون إلى الأسانيد، بل بعضهم حاطب ليل، ناهيك من نقل بعضهم من بعض على سجية المتقدمين.
ومن هذا أدعو العلماء والمثقفين كافة إلى شدة التريث عند إيراد الآثار والشواهد بأنه لا بد من صحة السند، على أية حال تكون؛ لكي يخرج من هذا الجيل ومن كل جيل علماء ومثقفون وأدباء يحسن القول إنهم كذلك من خلال ما يقرؤونه مما صنف علماؤهم ومثقفوهم وأدباؤهم.
ولست أظن بل إن بالي خالٍ من كل ريبة تكون علي ناكصة على عقبيها ذات قرع ولو، بل إن ظني أني اجتهدت فيما يلزم مني أن أجتهد فيه على غرار من ينشد حسن القول بحسن الأثر وصحة السند القويم.
وسوف أطرح من خلال هذا النقد التحليلي بعض الآثار مرقمة حسب كثرتها لدى العلماء والمثقفين، وكذلك الدعاة؛ لعلهم ينظرون إليها نظرة المريب، فلا يعولون عليها.
وهذه الآثار كما يأتي حسب الترقيم:
1- كما تكونوا يولَّى عليكم - موضوع
2- النظافة من الإيمان - موضوع
3- اطلبوا العلم ولو في الصين - موضوع
4- اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد - موضوع
5- أكرموا عمتكم النخلة - موضوع
6- إذا بعثتم إلي رسولاً فابعثوه حسن الوجه وحسن الاسم - موضوع
7- أول ما خلق الله العقل - موضوع
والصحيح أول (ما خلق الله القلم)
8- ليس كل بيضاء شحمة - ليس بحديث أصلاً
9- أنا مدينة العلم وعليّ بابها - موضوع
10- ماء زمزم لما شُرب له - ضعيف
11- الجنة تحت أقدام الأمهات - ضعيف
12- إذا رأيتهم الهلال فقولوا... (الحديث) - ضعيف
13- الأقربون أولى بالمعروف - لم يصح
14- خذوا شطر دينكم من هذه الحميراء - ضعيف جداً
15- ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة - ضعيف جداً
والصحيح (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)
16- الطواف بين البيت صلاة إلا أن الله أباح به الكلام ضعيف
17- من لزم الاستغفار... (الحديث) هذا رواه عمار بن ياسر -رضي الله عنه- ضعيف
18- إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم - ضعيف جداً
والصحيح (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم)
19- إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وفي رواية (صالح الأخلاق) - ضعيف
20- سلمان منا أهل البيت من كلام عليّ - رضي الله عنه -
وأهل البيت هم بيت النبوة وزوجاته وأولاده، وهم يختلفون عن آل محمد وآل محمد -صلى الله عليه وسلم- هم عامة المؤمنين.
21- دعاء المجلس المعروف (بكفارة المجلس) - حسن لذاته
22- اتق شر من أحسنت إليه- ليس بحديث وتمامه (إذا أسأت إليه)
23- لم يثبت بسند صحيح سالم من المعارض أن قبر آمنة بنت وهب في الأبواء. وقد أبطل هذا الإمام الطبراني في المعجم الأوسط عن ابن مسعود - رضي الله عنه -
24- كما لم يثبت أن موضع مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع المكتبة اليوم بمكة. وقد أبطل هذا ثلاث من كبار العلماء على هامش سيرة ابن هشام.
وهذه الآثار تدل دلالة واضحة على أن إيرادها أو مجرد نقلها دون تحقيق للسند الذي هو الرواة من المصنف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من الراوي بسنده إلى الموضع أو الظرف المكاني إنما يدل دلالة واضحة
على أن القصد مجرد البحث علماً أو ثقافة أو أدباً.
وأحسب أن كثيرًا من قومي في هذا الحين وخلال 150 خلت مثلاً إنما يعول بعض العلماء والمثقفين
والأدباء على كتاب (مروج الذهب) و(ابن شبة) و(الأغاني) و(العقد الفريد) و(الأزرقي)، وعلى ما كتبه الكلبي أو صنفه بعض الذين يلقون القول على علاته.
وهناك كتب أخرى يعول عليها بعض العلماء وسواهم دون تحقيق المناط، ودون نظر إلى أحوال الرواة، فيقعون دون قصد بالخطأ الذي يوقع غيرهم فيه كذلك.
ولا يقال إن المنهج العلمي لا ينظر إلى السند في هذا الحين؛ لأن البحث العلمي حري به تحقيق القواعد والأصول. وأقول لهم: أي قاعدة وأي أصل لا يقوم على أساس فليس هو بذاك كجدار أقيم على أرض رخوة
فهل يقوم؟
أو كشجرة زرعت على جرف مائلٍ كل الميل هل تستقيم؟
أو كحجرٍ جعل على ماء أليس يغرق؟ (ولا ينبئك مثل خبير).