نادية السالمي
المصاب بصدمة ثقافية خارج بلاده من الممكن أن يستقبل العلاج، ويُعدّل المسار وفق ما تم الاتفاق عليه بين رجاحة عقله، واستقرار نفسيته.
أما المصاب بالصدمة الثقافية داخل بلاده فيتعذّر عليه الشفاء والاستقرار، لهذا رفض الواقع منهجه والجنون ملاذه ونهاية مطافه.
الخوف من المثقف:
كل تعميم مرفوض وخطأ يقع فيه الكاتب، لكن لكل قاعدة استثناء لهذا عمم «يوسف إدريس» دون تردد فقال: «كل الكمية المعطاة من الحرية في الوطن العربي لا تكفي كاتبًا واحدًا».
إذا بلغ المثقف ما بلغ من عمره الثقافي وبلاده لاتزال تخشى أن يُغرر به، أو يغرر بالبلد وأهله، فنبئ الجميع بغد موعود بحرب ثقة ضروس.
الخوف من حرية المثقف إعاقة فكرية تجتاح السلطة في كافة الأقطار العربية، هذه الإعاقة أدت إلى ممارسات شوهت المثقف وعرقلت تقدمه، ويكفي أن تُسلسل الحكومات المثقف بالحروف فيباد ثقافيًا.
ومعاناة هذا المثقف حتى تنتهي - ليس لها بعد إصراره على أن يظل على قيد الحياة الثقافية والفكرية في بلده - إلا أنظمة واعية تؤمن بالتنوع والاختلاف وتسن الحرية قانونًا متبعًا في البلاد، عندها تأتي الأمور تباعًا فيُخلق الرأي الآخر في الصحف والبرامج وتُعقد الملتقيات في جو لا يُعَد الخلاف فيه خيانة وطنية أو خروجًا من الملة. الشخصية المهزومة التي يقدمها الخطاب الثقافي المرهونة لإشارة السلطة ما عادت سرًا لا يعرفه المتلقي العربي في المثقف، لهذا يظل المتلقي العربي مرهونًا بما يقوله الآخرون في العالم البعيد عنا، أما المتلقي الغربي كأفراد ومؤسسات ينجذبون إلى أحرار الذين ينطقون من تلقاء ما أملته عليهم قناعاتهم ورؤاهم لهذا يلجأ هذا العالم إلى المثقف البعيد عن سطوة السلطة، والمقيم في الخارج كمعارض أو كباحث عن الحرية ويعتقدون بصدقه، حتى لو كان أكذب أهل الأرض (فقط) لأنهم على قناعة بأنه يملك حريته وبالتالي قراره، فلماذا لا نمنح مثقفينا الحرية والأمان والثقة، ونصدرهم للعالم دعاة سلام، اعترافنا بالداء يُسهل علينا الدواء، وبهذا ينظر إلينا العالم كمجددين لفكر مياه آسنة.
تشويه المثقف:
قد يقع على المثقف العربي تشويه متعمد من قِبل الحكومات العربية أو من خلال تيارات يختلف معها وأيديولوجيات يتفق وقد لا يتفق معها، ولكن الأخطر أن يساهم هذا المثقف معهم في تشويه نفسه حين يقع في فخ الغرور، وينكفئ على نفسه وإنجازاته، فلا يعرف مواجع الشارع ولا الشارع يعرفه، أو حين لا يهتم إلا بما يحقق مصلحته أولًا، ثم يأتي الوطن ثانيًا. أيضا اعتزاله المشهد ليأسه من التغير أو من مهمشيه، فيستظل تحت «الشق أكبر من الرقعة».
كل هذا التشويه يظل أصغر بكثير من تشويه بفعل نفسه حين يكون مجرد بوق وأداة لغيره، سواء كان هذا الغير حزبه أو رئيسه، لهذا ثبات مستوى التوافق بين المثقف والسلطة - أيًا كانت - يشي بخلل ما لا تخطئه عين ذي لب من الجمهور، ولا تنكره المؤسسة الثقافية الواعية ولا منتسبوها غير المتشبثين بالمصلحة المادية أو المعنوية.
صناعة المثقف الجديد:
- تؤهل الأسرة والمدرسة والجامعة المثقف الجديد للريادة، ويتعلم من خلال هذه المؤسسات التربوية التعليمة أن الأخلاق بوابة الثقافة، والقراءة الممر الآمن، فمن خلال الأخلاق تُحفظ الحقوق، وبالقراءة يكوّن الرأي ثم يساهم في صناعة الواقع الجديد.
- تعليمه أن الحرية مسؤولية، وليست دعوة مفتوحة لفوضى عارمة.
- كسر القيود ومنح الثقة للمثقف أمام نفسه والمجتمع والعالم، وبهذا تُعاد صياغة العلاقة بين المثقف والسلطة، فيشارك المثقف في صنع القرار السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي.
- إعادة ترتيب وعي الحكومة بالنقد وأهميته كأداة لتطوير المجتمعات وبناء الحضارة، والعالم المتطور فعّل النقد ولم يتعثّر تطوره بل ازداد.
- تبنّي الإعلام والمثقفون لهذا المثقف الجديد، ومحاولة النهوض به، ودفعه للأمام، والترويج له تمامًا كما تفعل بعض الحكومات التي أدخلت علينا مثقفيها بواسطة وسائل الإعلام إلى كل بيت، وكل مكتبة حتى يعرفهم الجميع، ويتبادل المجتمع الحديث عن أطروحاتهم، واهتمام بلادهم بهم.