د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
أنا من تلامذتك المعجبين بك ناقدًا متميزًا لك حضورك الشفاهي والكتابي المؤثران؛ وإعجابي بك «لا يجب أن يمنعني من التوقف في بعض ما تقول»، فكيف تفهم مقصدي من جملتي؟ آلجواز أم الوجوب؟ قد تقول الوجوب وأن المعنى الذي يفهمه كلانا «يجب أن لا يمنعني من التوقف» وأقول هذا مجرد احتمال، وترى كيف أعيدت الجملة إلى ترتيبها الصحيح بوضع حرف النفي أمام الفعل المراد نفيه، فليس مقبولا إذن أن ننفي فعلا ونحن نريد نفي غيره.
إن ما جاء في مقالكم «في فهم مصطلح الفصيح أو سوء فهمه»(*) ليس نقاشًا للفصيح وغير الفصيح؛ لأن الفصيح من حيث هو مصطلح هو الصحيح المعتمد على الاستعمال الجمعيّ؛ ولذلك تعد بعض استعمالات لغات العرب (لهجاتها القديمة) صحيحة؛ ولكنها ليست فصيحة، ومن هنا فالـمُثُل التي أردت وصفها بالفصاحة ليست صحيحة ابتداءًا، وليس توسلك بالفهم المباشر بين المتخاطبين بمصحح للأخطاء؛ لأن الفهم لا يعتمد على المنطوق وحده، بل تُسعد النطقَ جملةٌ من الأمور السياقية الموجهة للمراد، وأما إقحامك للتداولية فليس موفقًا، فالتداولية علم استعمال اللغة المعتمد على فهم مقاصد المتكلمين؛ ولكنها لا تعاند بذلك الصحيح من القول ولا تسوغ الخطأ وتدعو له، إن الخطأ في استعمال اللغة وشيوع هذا الخطأ وارد منذ كانت اللغة؛ ولذلك ما فتئ اللغويون ينبّهون الناس إلى أخطائهم في سلسلة من كتب لحن العامة وأوهام الخواصّ ومعجمات الخطأ والصواب، وهي جهود علماء لا يوصفون بسوء فهم. والناس، حفظك الله، يخطئون من غير إدراك للخطأ، ولسنا نلومهم ولكنا لا نقرّهم على الخطأ ولا ندعوهم إلى التمادي فيه. إن ما تدعو إليه من إقرار الأخطاء قد يغتفر في لغة الخطاب العابرة والاستعمال الشعبي؛ ولكنه مشكل حين يدخل في تحرير الأنظمة واللوائح والقوانين وما يتعلق بالحقوق حيث يكون لصحة الكلام أثر في ذلك، فهل نكتب في عقد الإيجار «لا يجب على المستأجِر أن يبقى في البيت بعد نهاية هذا العقد»، أنفهم من هذا أنّ على المستأجر مغادرة البيت أم نفهم أنه غير ملزم بالبقاء فإن شاء غادر وإن شاء بقي بعقد جديد.
وتوسلت أستاذنا باستعمال الجرجاني، ورأيت أن القدماء أقروه ولم ينكروا عليه ذلك الاستعمال، والحق أنهم لم ينكروا استعماله؛ لأنه استعمال صحيح جاء ظاهره كباطنه، ولم يرد ما أردت إلزام الناس بفهمه، فقوله (وليس يجب إذا رأيتني أمدح محدثا أو أذكر محاسن حضري أن تظن في ...)، لم يرد به «يجب عليك أن لا تظن»، وهو أذكى من أن يوجب ذلك على أحد؛ بل هو أدنى إلى استماله القارئ ليدفع ظنه ويستبعد الشبهة في مقاصده من مدح أحد أو ذمّه، فجملة الجرجاني صحيحة. وأراك قلت عن هذه الجملة «وهي جملة تعني حرفيا يجب ألا تظن» مع أنك في صدر المقال ذممت الوقوف عند الحرفية حين قلت «وهذا قياس خاطئ يعتمد على المعنى الحرفي للكلمات، ويغفل عن المعنى التداولي».
ولست أفهم احتفالك بالخطأ الشائع والدعوة إليه حتى قلت «وعلى هذا تسقط كل تعقيدات المتعنتين في دعوى: قل ولا تقل، المبنية على أن الصواب هو ما نطقه أو أقره شخص ما توفي قبلنا بمدة، وكلما ابتعد تاريخ وفاته صار أكثر قوة في اتخاذه حجة يسقط معا [لعلها: معها] كل فصيح حديث، وكأننا نغلق لغتنا ونحنطها بعيدا عن هواء الحياة ونسمتها المتجددة»، ما الذي أقره ذلك الشخص المتوفى قبلنا سوى القرآن والشعر الجاهلي وما اتفق على سلامته من أقوال العرب، ومن هذه أخذ نظام العربية الصامد إلى يومنا هذا، أتريد أن نترك ما أقره القدماء ونقبل أخطاء المحْدثين لضعف تلقيهم لغتهم وسوء فهمهم لها بحجة واهية أن المتخاطبَين يفهمان ما يقال، ألا ترى أنّ تعدد فهم النصوص الصحيحة وارد فكيف بالنصوص التي يعتورها الخطأ. وليس يذم أمر لقدمه ولا يمدح، ولا يذم محدث لحداثته ولا يمدح؛ بل يمدح الصواب لأنه صواب ويذم الخطأ لأنه خطأ، وليس الرواج والشيوع بشهادة حق أو صواب، فما أكثر الضلالات في أذهان الناس وسلوكهم، ألا ترى شيوع فتح حرف المضارعة من الفعل الرباعي بين الخاصة والعامة حين يقولون يَلقي وهم يريدون يُلقي، أتريد قبول هذا لشيوعه وفهم الناس له مخالفين بذلك ما استقر من استعمال أجدادنا خلال ما يزيد عن خمسة عشر قرنًا. إن الدعوة الصادقة لخدمة لغتنا هي أن نجود تعليمها أحسن التجويد لا أن ندعو إلى قبول الأخطاء بحجة أننا نفهم اللغة بهذه الأخطاء أو بالزعم أنّ هذه ليست بأخطاء أو أنها فصيح حديث. إنه من المفهوم أن نقع في الخطأ ولكن من غير المفهوم أن نصر باستكبار عليه أو ندعي صوابه أو فصاحته.