لم تكن لليبرالية العربية يوماً على حداثة عهدها دستوراً منظماً يسير عليه من يعتنقها واعتقد لو كانت كذلك لوجدنا أشد المتعصبين لها والمؤيدين ينبري للخروج على معتقداتها ومبادئها لأنها ليست ذات تاريخ منقّح قد تخلّصَ من أدران الخطيئة والعبث والمصالح ولكنها كانت شذرات منفصلة ومعارضات للبعض يجنح كثير منهم إلى التقليد الغربي إما إعجاباً أو نفوراً من النمط السائد وكان ذلك منذ بداية البعثات المصرية إلى فرنسا وبعد أن أخذ رفاعة الطهطاوي يقرأ لمنتسكيو ويحاول دمج الشريعة الإسلامية بالفرنسية حين ترجم ( روح القوانين ) وسمّاه ( روح الشرائع ) وإن كانت المسألة فكرية إصلاحية إلا أنها نواة لليبرالية العربية فيما بعد وكذلك الليبرالية الغربية كانت بفضل الفلاسفة والحداثيين الذين تبنوها كفكرة مضادة للملكية فأصّلوا بعض القواعد الأساسية التي سارت عليها الليبرالية خلال القرنين الماضيين ! أما الأصولية الدينية فلها أيديولوجيتها المعهودة كالجهاد وخلافه لكنّها مغلّفة بالغلاف السياسي والأمني وما يبعثها جذعة سوى آراء الليبراليين حين يستفزّها فتستطير والأمر لا يتعلق بآراء فحسب في الإسلام السياسي أو في المجتمع المدني وأعرافه المتوارثة أو حتى في الأحكام الفقهية وإنما يتعدى ذلك إلى خطوط حمراء بالنسبة للمرء المسلم كأن يكون في نصوص القرآن الكريم وتفسيره أو الحديث الشريف بما يستشفّه الكثير في ذلك بالطعن والإلحاد والخروج من الملّة كما حدث لحامد أبوزيد وحسين أمين وفرج فودة .
يعتقد الكثير من الليبراليين أن سبب التخلف يرجع إلى الدين وقد صرّحوا بذلك مراراً وتكراراً وهذا سياق متصل من الغرب صرح به نيتشة من قبل حين شجع على محاربة الدين والعادات والتقاليد كقيود يجب تحطيمها تحت شعار ( كن نفسك ولا تكن غيرك ) بينما يكمن التصادم الحقيقي في الصراع على فرض الآراء فرضاً واقعياً بين التيارات الإسلامية المتشددة والليبرالية والمستمر بشكل عدائي ممنهج كالذي يحدث بين الحمائم والصقور داخل الأروقة السياسية والشد والجذب جعل التيار الوسط متهم من الأثنين بالليبرالية والأصولية في آن واحد في حال الاختلاف مع أحدهم كأنهم استساغوا سياسة إن لم تكن معي فأنت حتماً ضدي ! ويتكرر ذلك بين آونة وأخرى دون استيعاب الماضي وكأننا لم ننته بعد من أحجية البيضة قبل أم الدجاجة بخلاف الغرب الذي يستفيد من هذا التصادم الذي قد يكون صحياً وذلك بأن تجد التطور يكفل بأخذ المسار الصحيح دون الإضرار بالمصلحة العامة لوجود المؤسسات المدنية التي تتبنى بلورت الأفكار وتسهيل تطبيقها بعناية ورفضها في حالة الإضرار وعدم الكفاءة .
ولكن ما هو موقف الليبراليين من اليمين المتطرف والأحزاب اليسارية المتشددة التي لا تقل أصولية وراديكيالية عن المتدينين ؟!
مازلنا في أول الطريق ونريد ديمقراطية كاملة وهذه من ثنائيات الليبراليين وينادي بها كبار المثقفين دون معرفة واقع المجتمع وهذا يذكرني بالتنظير في التعليم دون النزول إلى الميدان لرؤية الواقع على الحقيقة لذلك دائما تفشل كل المعادلات الموضوعة لتحسين جودة التعليم فشلاً ذريعاً ومع كل ذلك نرى بأعيننا ماذا صنعت هذه الديمقراطبة التي تتكون من أحزاب حاكمة ديكتاتورية أو ثورجية في دول العالم الثالث ؟! وكيف فتكت بدول ظلت تتجرع السمّ حتى وصل إلى أخمص قدميها دون الاستطاعة أن تلفظه ؟! .
في كتابه الموسوم بالليبرالية الجديدة يذكر الدكتور عبدالله الغذامي عبارة تقليدية في مطلع مقدمته أشبعت نهمي في فهم المشهد العربي عندما قال :( سيظل العالم على كف عفريت ) استعارة تلخّص المسرح الدرامي في صناعة الحروب والصراعات الدموية بين التيارات التي فشلت في ترويض المصطلح بحيث يتقبل المجتمع أطروحاته كنسق وسطي يدّعيه الكل ! واعتقد أن كف العفريت الذي هو الغرب دائماً كمتهم أول وأن العالم الذي في الكف ينحصر في العالم الثالث أو تحديداً العالم العربي .
** **
- زياد بن حمد السبيت