ما سأكتبه هنا هو محركات صغيرة لعقل خامد، يحتاج إلى نفض الغبار، وأي غبار، إنه الارتكاس الذي انشب أظفاره في عقلنا العربي، والذي ازدحم بزخم الماضي حتى كاد يخنقه. وهو رسائل إلى ابني الصغير، الذي يعيش في متاهات وتضارب في الأفكار ومتناقضات الآراء.
السؤال (1)
تخامرني الشكوك أن الشعر فن التزييف، حيث إنه يقدم الفراغ اللامتناهي للقارئ، ويقدم الخيال الكبير للشاعر. كأنه نوع من الانحراف عن جادة الطريق، أو بالفعل هو يشبه من يركب خيلا ووجهه للخلف ولا يعلم أين تسير به هذه الخيل. ولكن في النهاية ليس على الإنسان سوى أن يشفي نفسه مما هو فيه في هذه الحياة، وعملية الاستشفاء قد تكون عبر الخيال، وعبر انحراف العقل إلى الشك كي يذهب إلى اليقين. « وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي» (سورة البقرة آية 260) ليس شرطاً أن تكون صاحب رغبة جامحة كي تتساءل، ومتى ما تساءلت ستصل.
الفرق بين الرغبة والسؤال كالفرق بين أن تحتضن امرأة وأن تكتب قصيدة، فاحتضان المرأة يتطلب تحقُّق الواقع، وكتابة القصيدة يتطلب استحضار الخيال، وهناك فرق بين الواقع والخيال. عليك أن تمسك الهواء إذن هو أجدى لك، فلا أبسط من تحوير الأشياء أو تحويلها أو إسقاطها على الآخرين، كي تكون منحرفا.
الانحراف هو نهاية الأشياء، عليك أن تؤمن بهذا، نعم قد تنحرف عن الحياة وتذهب إلى الموت، ولكن إياك أن تموت وأنت حي لأن هذا لا يعد انحرافاً بل هو ذبول يجعلك تعيش ساكناً، وتتلقى أشياءك من الآخرين دون أن تقدم ما يشفع لهذه الحياة من تساؤلات.
نعم الانحراف هو نهاية الأشياء، فكونك بدأت مشروعاً تجارياً بعد أن كنت هادئاً ساكنا في منزلك، فهذا يعني أنك انحرفت عن عادة كانت تلازمك، واستغنيت عن حياة الدعة والركون إلى المنزل إلى هذا المشروع الذي سيشغل وقتك، ويبعدك عن تفقد ضوء الغرفة لماذا هو خافت، أو لماذا لا يكون لونه أصفر أو أبيض، لماذا لا أضع شجرة في هذا الركن أو أضع تحفة على الطاولة؟ وكثير من الأسئلة التي كانت تراودك وأنت جالس في منزلك. الآن أسئلتك ستختلف، خرجت عن المسار الذي كنت تعيشه إلى مسار آخر: ما هو العائد الذي سيعود، ماذا لو اشتريت هذا الصنف وتركت الآخر، ماذا لو تعاقدت مع جهة أخرى لأحقق أرباحا أكبر؟ ولا يتوقف الأمر عند نهاية حياة المنزل، بل سيذهب إلى أنك ستلتقي وجوها جديدة، وكلمات جديدة لم تكن تسمعها من عائلتك في المنزل، وسيتغير مفهومك في الحياة، وستبدأ في قياس الأشياء بناء على الخارج، وليس على الداخل الذي كنت تعيش فيه. ومن هنا فإنك انحرفت عن حياة كنت تعيشها لتذهب إلى حياة أخرى تعيشها بملء إرادتك، والأسئلة أيضاً تطاردك في ذات السياق، ولا تنفك عنك في أي لحظة تعيشها سواء مع زملائك أو لوحدك وأنت تتأمل مشروعك الجديد. هو مشروع انتقال من فكر لفكر. لم تلغ حياة المنزل ولكنك انحرفت عن أسئلة هذا المنزل.
---
غداً أو بعد غد يمارس الناس سوءاتك التي ينهونك عنها!!
برناردشو
** **
- محمد الغامدي