أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ما رأيت في حياتي أسرع بديهة من محمد عبدالوهاب، ولا أجمل منه نبرة؟!.. إذا تحدث خلته من عرب الجاهلية في فصاحتهم، وإعطائهم مخارج الحروف حقها.. وما رأيت أوعى منه ذاكرة لشعر الفحول أمثال شيخه أحمد شوقي؛ وهو الذي أعاد للحن العربي مجده؛ لقد أرضى المؤدين ذوي الطبقات الصوتية مثل أم كلثوم بأثرى الألحان المجنحة.. ولكم تمنيت لو قلت ذلك مبكرا؛ وأما اليوم فسلوتي الكريمة المعيارية في غير هذا؛ فيا من لا ترون بأسا في الطرب بمجمله: ارحموا أنفسكم، وحسنوا أذواقكم بكلمات: ترهف المشاعر، وتصقل اللسان، وتورث المتعة.. وارحموا أنفسكم باختيار الثلاثي العبقري: (الشاعر، والملحن، والمؤدي)؛ وإن شغلتم بأفضل من الغناء فهو خير لكم.. واعلموا أن اللهجات المحلية في جزيرة العرب على الرغم من صلتها الحميمة بالفصحى: ليست جميلة الأداء من قبل الناطق بها مخرجا ونبرا؛ فستظل لهجة محلية مثل عامية لبنان والشام ونصف أفريقيا الشمالي، وما أصعد من بلاد العرب جنوبا؛ ولعل أكل القعقاع (ثمر العاقول) في منطقة نجد، ومضغ طلع النخل؛ وهو أصل القنو (العذق) الذي تسميه العامة كافورا: أثر في حناجرنا بالبحة والحشرجة؛ وليست كذلك عامية أرض الكنانة (باستثناء أعماق الصعيد)؛ فتلك العامية هي الوسيط الثالث الذي يجتمع عليه فهم النخب والعادييين؛ وهو الذي تجتمع عليه أذواق كل شرائح المجتمع في الوطن العربي؛ وأشد أهل الكنانة عامية أهل الأرياف؛ فالمسحراتي مثلا ؛وهو عامي يترنم بالفصيح مثل:
(أيها النوام قوموا للفلاح.
واذكروا الله الذي أجرى الرياح.. إلخ)؛ ويغني بالعامية: فلا ينبو عنه ذوق ولا فهم مثل: (قومي يا أم محمد وصحي جوزك.
بلاش كسل.. وأنت يا سي فؤاد: هو النوم مالوش آخر).. لقد كسى الله نطق عوامهم ملاحة وجاذبية تأخذ بتلابيب القلوب؛ وليس كذلك عامية السواحل، ووسط الجزيرة.. وأما زجل أمثال أحمد رامي ، وعبدالوهاب محمد، وبيرم التونسي: فهو لغة المثقفين.. وفي أيام الصبوة بثثت شكواي من فساد الذوق في حلقة نشرتها بعنوان: (بكائية لأم الملايين) ، ثم توقفت عن نشر الباقي؛ مخافة أن أجرح بعض المشاعر؛ وهكذا فعلت في قصائد لي من الشعر المبعثر؛ إلا أنه يحكمها قفزات الخبب النزارية.. وذوق بعض السميعة في بلادي إنما هو تذوق شعر عامي قصير النفس تردح به الطقاقات الأميات في الأعراس؛ وردحهن كلعب الفطر الشيب (الإبل)، والعامة تقول: (يا شين لعب الفطر)!!؛ يعجبون من (القبح)؛ وردح الطقاقات يجعل تراب الأرض مثل تراب صير الباب؛ ولا جمال فيه أداأ, ولا مخارج حروف، ولا نبرا.. ولا جمال في رقص الإبل؛ فتبارك الله أحسن الخالقين!!.
قال أبو عبدالرحمن: الصير من استعمال العامة؛ وهو صحيح مجازا؛ لأن صيغة (فعل) للاسم من صار، وتفتح الفاء للمصدر؛ وصير اسم لما صار إليه الشيىء من المآل؛ وصير الباب الحفرة السفلى لعمود الباب من يسار؛ فالباب يصير إليها عند فتحه وإغلاقه؛ ولهذا يكون تراب الصير دقيقا جدا كتراب المراغة؛ وفي الفصحى استعمل الصير لمطلق شق في الباب، وصير الباب له صوت حكايته (صرير) إذا لم تعمق الحفرة ، ويرش ترابها بالماء؛ وقد لوحظت حكاية الصوت في (الصيار) بالصاد المشددة المكسورة المهملة، وهو صوت الصنج .
قال أبو عبدالرحمن : لقد عشت بيئة الحرمل والحنظل.. لا عطور، ولا نوافير، ولا أوتار زرياب، ولا حسناوات النورمان؛ فتكلفت التصابي تقليدا لأمثال بيئة الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى حتى كان التطبع طبعا؛ فتوحلت في الحب والطرب، وإن كانت مرت بي أزمة عاطفية في زواج فاشل ؛فهي لا تبيح لي تلك الورطات لو ظللت على فطرة النشأة في مدينتي شقراء مدينة الفطرة، ومدينة مسجد الحسيني المبارك.. قرأت طوق الحمامة لابن حزم، وقرأت إباحته للغناء الملهي في رسالة خاصة، وفي مسألة من كتاب البيوع بالمحلى؛ فانماع قلبي ووجداني، وتقاطر طرسي.. ولا ريب أن الإيغال في العمل الفكري خير وبركة، ولكن بعد أن يرق القلب بممارسة أشواق الروح مما صح من ممارسات الربانيين ككتب ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في الرقائق، وكشيء من مبكيات القلوب آخذه بحذر من تجربات القشيري والمحاسبي وأبي طالب المكي وغيرهم (؛ وهن من مقتبسات ابن قيم الجوزية عفا الله عنه؛ وهو لا يخيل إليهن إلا في القليل النادر) بعد تحقيق الدلالة والثبوت؛ لأن المرجع إلى نصوص الشرع وسير قدوة الأمة من السلف كالصحابة رضوان الله عليهم؛ ولكن أنى لقلب يرق ويهش لهذه الرياضة وقد أفعم بالطرب والحب؛ فكان علمي فكريا عقليا لا يلامس القلب إلا في الأفاويق التي ذكرتها ؛ والأفاويق جمع فيقة، وهي ما اجتمع من الماء في السحاب على التشبيه بفواق الناقة، وهو رجوع اللبن في ضرعها، واستعيرت لقصر المدة؛ لأن الفواق رجوع اللبن إلى الضرع شيئا بعد شيئ؛ ولهذا أثر في الحديث: (أتفوق القرآن شيئا بعد شيء) ؛ أي لا أقرأ الجزء مرة واحدة.. والأحاديث التي يرويها اللغويون عزيزة التخريج تحتاج إلى ذوي اختصاص مثل اختصاص الذين حققوا مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى في خمسين مجلدا رحم الله ميتهم ومتع بحيهم ورحمه.. والصواب مجلدا ؛ لأن المراد الجزء المجلد، ولو قيل: (مجلدة) لكان المراد أن كل الأجزاء في جلد واحد)).. وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.