عبدالوهاب الفايز
يبدو أن عدم اهتمامنا بمراكز الأبحاث والدراسات وصنع السياسات اتضح أثره السلبي على القرار الحكومي، وبخاصة في الأمور الفنية الدقيقة.. فعندما وجدنا أنفسنا أمام تحديات وخيارات صعبة لإعادة هيكلة القطاع العام، وتنويع القاعدة الاقتصادية،
كان البديل هو الاتجاه إلى شركات الاستشارات العالمية.. وهذه لها مكانتها وأهميتها وخبرتها في الأبحاث وصنع السياسات.
لكن مشكلتنا معها أنها ترسل لنا خبراء الصف الثالث الذين ليس لهم العمق المعرفي بأوضاعنا، وليس لهم الخبرة في صنع السياسات الحكومية، ولم أرَ أحدًا ممن تعامل معها الآن أو منذ سنوات بعيدة لديه القناعة والثقة بمسارها الأخلاقي، أو بما تقدمه بعض هذه الشركات التي تسيطر على الحصة السوقية الكبرى في الاستشارات المحلية.
وهذا الاعتماد على الشركات الأجنبية له آثاره السلبية الممتدة، يأتي في مقدمتها عدم قدرتنا على (توطين الخبرة)، وهذا أفقدنا تطوير قطاع الدراسات والاستشارات المحلية؛ لكي يكون (صناعة متكاملة)، تولد الفرص الوظيفية الأساسية والمساندة. أيضًا ثمة أثر سلبي، هو عدم توجيه القرارات والمشاريع الوطنية إلى الحلول الواقعية التي تأخذ في الاعتبار المتطلبات المحلية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ربما الحل المستدام هو في (إنشاء كيان استثماري وطني)، يتولى إجراء الدراسات والبحوث التي يحتاج إليها القطاع العام. وصندوق الاستثمارات العامة ربما هو الجهة التي يمكن أن تتبنى إنشاء هذا الكيان، ويكون بمساهمة الجهات التي لها خبرة في هذا المجال، مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، والجامعات السعودية، ومعهد الإدارة العامة، ومراكز الأبحاث الوطنية المتعددة في الأجهزة الحكومية وفي القطاع الخاص.
ورأس المال لن يكون عائقًا أمام قيام هذا الكيان؛ فديوان المراقبة العامة يقدر أن الإنفاق على الدراسات والاستشارات في القطاع العام فاق 11 مليار ريال العام الماضي. وهذا الرقم الكبير يدعم التوجُّه لإنشاء هذا الكيان.. وهذا يخدم أيضًا التوجه لتوسيع الفرص التي تؤدي إلى إعادة توزيع الثروة الوطنية.
من إيجابيات هذا الكيان استثمار (المتقاعدين) من أساتذة الجامعات، ومن موظفي الدولة المدنيين والعسكريين؛ فجزء من هؤلاء كفاءات وطنية، ساهمت في بناء بلادها في العقود الماضية، ولديها التجربة والخبرة التي يجب استثمارها.. والمهم أن أغلبهم الآن في وضع يساعد على تقديم تجاربهم التي ربما نغفل عنها ولم تصلنا، وخصوصًا إذا تذكرنا أن تجاربنا وخبراتنا الإدارية تبقى لدى أصحابها. مع الأسف، لدينا الكثير من تجارب قيادات ورجال الدولة التي لم يتم توثيقها، وهناك أسماء قليلة وثقت تجربتها.
الكيان المقترح يفترض أن يكون القاطرة لقيادة قطاع الدراسات والاستشارات؛ وهذا يؤدي إلى تأسيس صناعة الدراسات والأبحاث في المملكة، ويفتح المجال لتوليد الوظائف، وينمي مراكز الدراسات والأبحاث المتوسطة والصغيرة، ويعظم مكاسبنا الوطنية من صناعة المعرفة.
أيضًا، من الإيجابيات ضرورة إيجاد (حوكمة ورقابة) على هذا القطاع الحيوي؛ حتى لا يكون مرتعًا للفساد والغش. قطاع الدراسات والاستشارات دوره خطير؛ فقد يوجد البيئة غير الفعّالة وغير الصحية لإصدار قرارات ومشاريع من القطاع العام خاطئة وغير إيجابية.. وربما تكون مدمرة! ثمة أمر خطير، ويأتي في قائمة سلبيات الوضع القائم: عادة نجد أن المستشارين الأجانب يقتربون من مراكز صنع سياساتنا المالية والاقتصادية، ودخولهم مناطق حساسة له خطورته ومحاذيره على أمننا الوطني.. وأحيانًا بعض التقارير السلبية عن بلادنا في الصحف العالمية تكاد تشك أنها تتم بالتنسيق مع جهات مطلعة على أمور حكومية دقيقة، ولها رغبة في الابتزاز والتأثير على قراراتنا الوطنية؛ لتخدم مصالح دول وتجمعات تجارية ومالية، وتخدم البحث عن الفرص الاستثمارية.
أيضًا من سلبيات الوضع القائم عدم وجود (مركز معرفي مرجعي) لإدارة الوثائق وحفظ الدراسات التي صرفت عليها المؤسسات والجهات الحكومية؛ فكل جهاز حكومي له طريقته الخاصة في الحفظ والاسترجاع وحماية الوثائق، ولا توجد آلية عمل واضحة؛ وهذا يحرمنا الاستفادة منها.. وربما بعض الأجهزة الحكومية تواصل دراسة موضوعات سبق دراستها والإنفاق عليها؛ وهذا يفوت الاستفادة من نتائجها، وتكون الخسارة مركَّبة.
هنا لا نعترض على الاستعانة بالشركات الاستشارية، ولكن حتى نعظم استفادتنا منها يجب تلافي الوضع القائم؛ فالشركات العاملة لدينا أهدافها مالية بحتة، ولا يهمها سمعتها أو جودة مخرجاتها؛ لذا تبعث لنا الصف الثالث، وإذا زاد العمل يدعمونهم بالصف الرابع، أي كلما زاد العمل زاد التقشف في التكاليف! وهذا لن يخدمنا، بل يهدر مواردنا، ويجعلنا مصدر تندر وسخرية لدى هؤلاء الذين لديهم قناعة أننا لا نقرأ؛ لذا يطبقون معنا (القص واللصق)، وفنون العروض presentations باللغة الإنجليزية.. عروض تبدأ بفرد عضلاتهم، ثم (توبخنا) على مشاكلنا، ثم تعرض حلولاً محلقة في الآفاق!!