د.فوزية أبو خالد
من المعروف لدى المشتغلين بعلم الاجتماع والإدارة والمنشغلين بالهاجس الوطني أن عموم الجهاز التنفيذي للحكومة السعودية اليوم يمر بمرحلة تحد لم تمر عليه ربما من أيام ما سمي تاريخيا بحكومة الدكاترة في المنتصف الثاني من عقد السبعينات ومرحلة ما بعد نهاية الطفرة النفطية الأولى منتصف الثمانينات, ومرحلة ما بعد صدمة الإرهاب المسلح داخل المجتمع السعودي نهاية التسعينات الميلادية وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر على المملكة وبداية الألفية الثالثة ميلاديا أيضا.
***
فإبان مرحلة حكومة الدكاترة ربما يكون الجهاز الحكومي قد شهد انتفاضة إدارية نسبية على العديد من الأساليب التقليدية المعهودة بما حمله آنذاك أعضاء مجلس الوزراء الجدد من معرفة علمية مستجدة على البلاد من خلال شهادات الدكتوراه التي أتوا بها في تخصصات متعددة من جامعات أمريكا وأوروبا. ومن المرجح أن ما جاء بهم وقتها لتلك المراكز القيادية هو حلم الدولة والمجتمع بالتحديث الإداري للهيكل الوزاري في علاقته بأمل إحداث نقلة تنموية على مستوى مجتمعي اقتصاديا ومعرفيا وثقافيا، وإن لم يمس تركيبة البنية السياسية للدولة. وتلك المرحلة هي التي برزت فيها بعض أسماء وزراء مؤثرين استطاع بعضهم كسب ثقة المجتمع لفعاليتهم ولروحهم التجديدية بما فيها النزول من البرج العاجي لوظائف الدولة العليا ليكونوا قريبين من نبض الشارع، وقد بقي عدد منهم في ذاكرة المجتمع إلى اليوم ومنهم د. محمد عبدو يماني ود.عبدالعزيز الخويطر ود. سليمان السليم.
وقد كان د. غازي القصيبي على رأس تلك القائمة الوزارية التفاعلية المؤثرة التي فصل الحديث عن مدرستها الإدارية وإن تعددت اتجاهاتها بين المحافظة والمواجهة غازي القصيبي نفسه في كتابه الأدبي التاريخي «حياة في الإدارة» الذي سجل فيه ما يمكن أن يسمى بالمرحلة الثالثة من مراحل التحولات بالمجتمع السعودي من خلال تجربته في العمل في عدة وظائف ومنها وظيفتاه كوزير للصحة وكوزير للكهرباء ما قبل دخول البلاد إدارة وحياة في نفق التذبذب والركود إن لم يكن الجمود بعينه.
***
أما إبان انحسار المد الريعي للنفط فقد شهد الجهاز الحكومي حالة من التقشف التي لم تقتصر على التقشف المالي المدقع وإنما امتدت أذرعها للهيكل الإداري لمعظم الوزارات والمؤسسات الحكومية بما فيها الجامعات وحولتها إلى عروش مفرغة إلا من العمل الروتيني الرتيب إن لم يكن البليد الذي لم يكن عونا لا للدولة ولا للمجتمع على مواجهة أهم تحد لمرحلة أواخر الثمانينات الميلادية المتمثل في تحدي التراجع عن كل مكتسبات التنمية التي أحرزتها إبان المرحلة السابقة عليها بما فيها المكتسبات المعرفية والقيمية والتنموية نفسها.
***
أما مرحلة نهاية التسعينات وبداية الألفية فقد جرى فيها ما يشبه عملية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلك الهياكل الوزارية المتجمدة للحكومة (باستثناء وزارات محدودة ظلت نشطة ومنها الداخلية والخارجية). وكان ذلك بمثابة محاولة للخروج على حالة الجمود التي اعترت الحكومة وليس المجتمع وحسب لما يقارب عقدين من الزمن. وقد ساعد الانتعاش الريعي الذي شهدته البلاد بالارتفاع الكبير في أسعار النفط الذي أدخل البلاد فيما سمي بالطفرة النفطية الثانية على ذلك. يضاف إليه ما يمكن أن نستعير له المسمى السياسي للكتلة الحرجة وإن تمثل ثقلها بالضغط الخارجي لتهمة مساندة الإرهاب التي شهرت في وجه كل سعودي وليس في وجه المملكة وحدها.
ولم تكن العملية بعد ردح من الموات وتآكل مفاصل الحركة إدارياً واجتماعياً سهلة, خاصة عندما بدأ د. عبدالله العثمان بقيادة ورشة عمل الجودة والاعتماد الإداري والأكاديمي، وفتح باب التوظيف الأكاديمي والابتعاث الذي ظل مغلقا لأكثر من عشرين عاماً, وأغلقت ملفات الإبعاد والانغلاق. وهذا ما كان ينطبق على الكثير من الإدارات الوزارية بالحكومة التي لم تكن تقل سباتا. ولذلك رأينا ميلا لتطعيم مجلس الوزراء ببعض وزراء يتوخى فيهم المساهمة في الخروج على الجمود مثل د.خالد العنقري للتعليم العالي, (وإن جاء تعيينه منذ التسعينات)، وأ.إياد مدني بالإعلام ود.عبدالمحسن العكاس للشؤون الاجتماعية وفيما بعد جاءت مفاجأة عودة د.غازي القصيبي لوزارة العمل. وقد تقدم تلك التغيرات الوزارية في الهرم القيادي لمجلس الوزراء منذ التسعينات ايضا تعيين د.محمد أحمد الرشيد لوزارة التعليم. هذا بالإضافة لنقلة الغاء هيكل الرئاسة العامة لتعليم البنات وإعادة تعليم البنات لمجرى التعليم العام على إثر حريق مدرسة البنات بالهنداوية بمكة المكرمة. وقد تمت معظم محاولة الاستيقاظ إداريا وإعلاميا أيضا وفي أكثر من مجال حينها في ظل قيادة الملك عبدالله التي لا شك أنها وإن لم تُقدم على تقديم مشروع إصلاحي سياسي واجتماعي جذري على رغم من تسمية الصحافة لحراك الحكومة والمجتمع وقتها بذلك, إلا أنها مؤكدا كانت قيادة على مستوى التحديات التي واجهتها البلاد في تلك المرحلة إلى حد بعيد. فخارجيا قامت بامتصاص تداعيات الحادي عشر من سبتمبر الخطيرة, فجنبت البلاد مواجهة عسكرية خارجية لم نكن في واردها، وداخليا قامت برد الاعتبار لمختلف القوى الاجتماعية فيما يشبه المصالحة الوطنية بين بعضها البعض من ناحية وفيما بينها وبين الدولة من الناحية الأخرى تحت شعار ومظلة ما سمي بمركز الحوار الوطني. ومما عزز ذلك ميل لكف كف الاستعداء والجز عن الطروحات النقدية السلمية مع رفع للسقف المعتاد لحرية الكلمة ولحق التعبير. وربما على جناح تلك المحاولة لإنقاذ الحكومة من نفسها جرى على مستوى صحفي مشاركة كتاب في الصحافة المحلية ممن كانت تتداول أسماؤهم وكتاباتهم محظورة، وقد توج مسيرة التطوير الإداري هيكل، بل ومضمون عودة أ. خالد المالك لرئاسة صحيفة الجزيرة بعد انقطاع يقارب الخمسة عشر عاماً. هذا بالإضافة لإطلاق جريدة الوطن من منطقة الجنوب بنفس صحفي نقدي جديد، رغم استمرار احتكام الصحافة لسياسة الرسمية عبر وزارة الإعلام.
على أن الأهم في هذا السياق هو النجاح الذي كتبته تلك الإجراءات الميدانية على مستوى إداري ومجتمعي إلى حد نسبي كبير في مساعدة الحكومة على استعادة بعض الحيوية الإدارية لجهازها التنفيذي وفي إتاحة الفرصة للمجتمع ليتخفف من غلواء تغول التطرف الفكري والاتجاه نحو التخلي عن توحش الأحادية في القول والفعل.
***
وإذا كانت مواجهة تحدي الحكومة التنموي وهياكلها التنفيذية بالأمس كادت تنحصر في المواجهة على المستوى الإداري بإعادة الهيكلة أو بالتوسع في المهام وفي الخدمات وبالمجيء بوزراء يتوخى فيهم الاستنارة والمعرفة أو ما يسمى بالإنجليزي الـ(know-how)، فإن تحدي اليوم هو تحد مركب لأنه ليس مجرد تحدي الهيكلة الإدارية ونخبة التكنوقراط، بل إنه تحد تقني حاد وتحد ثقافي وقيمي عميق وتحد مجتمعي وسياسي لا يقل حدة وعمقا. مضاف إلى كل هذه التحديات القيمة الأساسية والمضافة للتحدي الإداري بحد ذاته والتحدي الاقتصادي والعسكري. وفي هذا إذا كان يصعب قيادة التحولات النوعية بنفس عقلية الحرس القديم أو بنفس قيم المرابطين القدامى وخيولهم ورباطهم وأدواتهم، فإنه بالمثل لا يمكن بل يستحيل قيادة التحولات بنفس هرم العلاقات الرأسي ولا بدون المشاركة الأفقية لقوى المجتمع على اختلاف أجيالها وأطيافها، من هيئات الترفيه إلى هيئات الثقافة ومن سلطة الصحافة إلى بُنى السلطة. ولعل هذا ما تطمح له رؤية 2030 ويجب أن تحسب حسابه لكسب رهان التحولات وجعل الريح تجري بما تشتهي مصلحة الوطن ككيان موحد حر مستقل شفيف وعادل.
* أُجل المقال المفترض لرغبة الوزارة في مدي بمزيد من المعلومات التي لم تصل بعد لحين موعد المقال.