أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً، وبعد:
فلقد تشرفت وسعدت بحضور اللقاء الأبوي، والافتتاح الملكي لدورة مجلس الشورى السابعة، والتي باركها وشرّفها، وأسعد من حضرها وسمعها ولي أمرنا الهمام، ومليكنا المقدام، وقائد نهضتنا، وحامي وحدتنا -بعد الله-، ملك الوفاء والريادة، والحزم والعزم، والسؤدد والمجد، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -وفقه الله وحفظه، وأيّده وأعزّه-، وهي سنة حميدة من ولاة أمرنا، يدشن فيها مرحلة من مراحل المسيرة الشورية، ودورة مستقبلية ترسم فيها رؤية الوطن بهذا الخطاب المهم، الذي ما أن يعلن عنه حتى يترقبه الجميع، كيف لا وهو إعلان عن نجاح مسيرة المجلس الماضية، وتقييم لواقع الشورى، وتوجيه للشعب كله وأعضاء الشورى خصوصًا بما يجب عليهم في مستقبل الأيام، في ظل الفتن والمهددات والحوادث والمتغيرات والنوازل والأزمات، إنه حديث القائد الملهم، والإمام المسدد، والحاكم العادل، والملك الصالح إلى شعبه الوفي، ورعيته المباركة، بهموم الوطن، وطموحات القيادة، وأدوات التعاطي مع الواقع، ومنهج الدولة في هذه القضايا العامة والخاصة، عبر هذا المجلس المهم الذي يمثل أحد أهم أدوات الدولة لصناعة الحاضر، واستشراف المستقبل البعيد، وما من شك أن هذا اللقاء، وما تضمنه من عبارات وكلمات أبوية تسطر بمداد من ذهب، ويدلف بها إلى مستقبل السعد والخير، وإن نعم الله علينا في بلد العقيدة والأمن والإيمان، والرسالة الخاتمة والإنسانية مهوى الأفئدة ومأرز الإيمان كبيرة بهذه الثوابت والأصول التي قامت عليها ولا تزال، ثم بالولاية التي ترى واجبها ومسؤوليتها حمايتها، وإقامة الحياة عليها، وتوجيه كل الجهود لخدمتها، وتطويرها، ولهذا صدقوا الله فصدقهم الله، ووضع لهم القبول، وجعل لهم من المكانة والمنزلة ما يحمل دلالات مهمة من هذه الحيثية، يكفي في ميزة هذه الدولة قيامها على شريعة الله، وعنايتها بها، فهي تطبق حكم الله، تقيم حُدوده، وتحمي شريعته، وتحكّم شرعه الحنيف في كل شؤون الحياة صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، وذلك في قضاء نزيه مُستقيم، لا سُلطان لأحد عليه غير سُلطان الشّرع الحنيف، وتخدم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتعلي شأنهما تعلمًا وتعليمًا، وعناية بمقاصدهما وأهدافهما، والعمل على نشر قيم الشريعة الغراء السّامية في العالم أجمع، وتقدم أعظم خدمة للمقدسات الإسلامية في بلد المقدسات، ومهوى الأفئدة، ومهاجر رسول الله -صلى الله عيه وسلم-، في صور من الخدمات النوعية التي لم تمر على تاريخ هذه البقاع الطاهرة.
ومن نعم الله ما وُفّق إليه وُلاة أمرها -حفظهم الله- من اتخاذ التدابير الواقية، وسن القرارات والأوامر لصدّ آثار الأزمات عن بلادنا حرسها الله، بخُصوصيّة مكينة ثابتة، وهويّة واقعيّة راسخة، تستدعي الخبرات، وترصد الوقائع، وتعتمد الأصالة، وتنشد المثالية، ليكون أثر الأزمات والمتغيرات محدودًا، ويدفع الله -جل وعلا- عن البلاد والعباد تلكم الآثار، وهذا مرده إلى توفيق الله لولاة أمرنا وتسديدهم، ثم ما تميزوا به من خلال وخصال، فإن الله جعل الإمام العادل قوام كلّ مائل، وقصد كلّ جائر، يحمي به الله البلاد، وينصر به المظلوم، ويقمع به الظالم.
ومن صور تحكيمهم للشريعة الغراء العناية بالشورى في منهج الحكم، أخذًا بالتوجيه القرآني: (وأمرهم شورى بينهم)، وقوله سبحانه: (وشاورهم في الأمر)، قال القرطبي -رحمه الله-: «أمر الله تعالى بالشورى، والشورى بركة، وما ندم من استشار ولا خاب من استخار. وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي»، وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور; فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانًا، وقد جعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخلافة -وهي أعظم النوازل- شورى، قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، قال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية».
وهذا المبدأ القويم، والسياسة الشرعية الحكيمة انتهجها وطبقها مؤسس هذا الكيان الشامخ، وموحد هذه الجزيرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله-، لما دعا -رحمه الله- إلى الشورى كركيزة أساسية في حكمه، وأمر بتأسيس مجلس الشورى -بعد مراحل تعد نواة له- وافتتح دورته الأولى في 14-1-1345هـ، وكان -رحمه الله- يلقي خطابًا ملكيًا يفتتح به أعمال كل سنة من فترات مجلس الشورى، وفي هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الشورى العريق، التي أضحت واقعاً ملموساً، يمتد هذا المنهج الراشد، وترتبط الفروع بالأصول، وحاضر وطننا المجيد بماضيه التليد، ومجده الغابر، ويرى المواطن في هذه البلاد عناية مليكنا المفدى، وإمامنا المسدد بالشورى ومجلسها بما يؤازر مسيرتها ويرفع من شأنها، ويحقق أثرها الشمولي، وأصبح مجلس الشورى السعودي نظاماً مطوراً، وأسلوباً متميزاً، وجهازاً إدارياً أساسياً في سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وكان ولاة الأمر -حفظهم الله- هم من سدد هذه الحقبة المتميزة، ودعم مسيرتها، وذلك منذ أن أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- تحديث الأنظمة في البلاد، وأعلن عبر خطابه التاريخي في 27-8-1412هـ عن إصدار الأنظمة الأساسية الثلاثة للمملكة العربية السعودية: نظام الحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق، فبدأت مرحلة جديدة في مسيرة الشورى، تكتمل دورتها كل أربع سنوات، ويعاد تشكيله بنخبة من الأعضاء المؤهلين، ويبارك ولي الأمر وقائد المسيرة هذه المناسبة، ويتشرف رئيس وأعضاء المجلس والمواطنون بسماع الخطاب الملكي الذي يعد تأكيدًا على هذا النهج الإسلامي السديد، والسبيل الرشيد المبني على الشورى، ودعماً لمسيرة الشورى، وتنويهاً بمكانتها ومنزلتها لدى ولاة الأمر -حفظهم الله-، واستمر الحال حتى هذا العهد الميمون الزاهر، عهد ملك الحزم والعزم، خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي أولى هذا المجلس عناية قصوى، واهتماماً خاصاً كان له أثره الفاعل المؤثر في تفعيل دور المجلس وتحقيق أهدافه، وكلمة خادم الحرمين الشريفين -رعاه الله- يوم الأربعاء 25 ربيع الأول 1439هـ، الموافق 13 ديسمبر 2017م، التي ألقاها بمناسبة افتتاح أعمال السنة الثانية من الدورة السابعة لمجلس الشورى، وذلك بمقر المجلس في الرياض هي مثال على هذه السنة الحميدة، والقيم الراسخة الأصيلة، ولذا كان الجميع منتظرًا هذه اللحظات التايخية، مترقبًا هذا الإعلان؛ لأنه يلخص رؤية المليك المفدى، ونظرته إلى المستقبل، ويرسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة، وقد جاءت هذه الكلمات النيرات، والعبارات المليئة بالمعاني والدلالات، وحملت في طياتها مضامين عظيمة، وإشراقات متميزة، أشار إليها -حفظه الله- ببيانه الناصع، وأدبه البارع، فكان -حفظه الله- كما قال لبيد: «خطيبًا إذا التفّ المجامع فاصلا»، ذلكم الخطاب الملكي الذي يعد بحق وثيقة وطنية، ذات دلالات وأبعاد غاية في الأهمية، يستشرف من خلاله المواطن العادي والمسئول سياسة هذه الدولة المملكة العربية السعودية، وموقفها تجاه قضايا الوطن والمواطن، بل وقضايا العالم أجمع، ومنهج لدولة في كل ذلك، وبناؤه على سمة هذا الدين وميزته العظيمة المتمثلة في الوسطية والاعتدال، ومحاربة التطرف والفساد والإرهاب بصوره وأشكاله وتنظيماته وجماعاته كافة، وكذلك تجاه القضايا الإقليمية والدولية، ويعلم أن مليكنا المحبوب وولي أمرنا المظفر -أيده الله- يولي قضية الوطن والمواطن كل اهتمامه، ويضعها في أعلى مراتب الأولوية لدى جلالته، همّه في ذلك إبراء الذمة، وأداء الأمانة، وتحقيق المصلحة العليا للبلاد في توفير متطلبات الحياة المعيشية، وتحقيق الرفاهية، والاستقرار والتنمية الشاملة وفق رؤى إستراتيجية بناءة هادفة -بإذن الله-.
ولذا أرى أن من واجبي أن أبرز تلكم المعاني والمضامين والدلالات، قيامًا بالواجب، وتعبيرًا عمّا يكنه القلب من المشاعر تجاه هذا الملك الحكيم الذي حباه الله من الخلال والخصال، ومنّ عليه بالحكمة والسداد، وقوة الرأي، وصواب القول، وأتناول أهم الدلالات التي تشير إليها هذه الكلمة الضافية، والمضامين التي حملتها، فأما أهم دلالاتها: فهي تشير أولاً إلى التأكيد على منهج المملكة العربية السعودية الثابت في الالتزام بالشريعة الإسلامية، بمبادئها وأصولها وخصائصها وميزاتها، فهذا الخطاب المبارك أكد هذا الامتداد التاريخي لدولة الكتاب والسنة، ودولة العقيدة الصافية والمنهج الوسطي، وأثبت هذه العناية الممتدة لهذه الدولة، منذ أن أسسها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- على تطبيق شرع الله، والالتزام بالعقيدة الإسلامية السمحة، وترسية العدل في جميع الأمور، والأخذ بمبدأ الشورى، كمنهج إسلامي، وطريق سديد لإدارة شؤون البلاد، يتم من خلاله تفعيل مبدأ المشاركة المسئولة، والحرص على شمولية هذه المشاركة لتستجيب لتطورات العصر، وتواكب مستجداته، مشيرًا مقامه الكريم إلى شرف خدمة بيته الحرام، ومسجد رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين والزوار.
ومن دلالاتها المهمة: تركيزه -حفظه الله- على ما تحمله تطلعات رؤية المملكة 2030 من خطط وبرامج تنموية، تستهدف إعداد المملكة للمستقبل الواعد -بإذن الله-، والذي تم من خلالها إعادة هيكلة بعض الأجهزة الحكومية، واتخاذ عدد من القرارات لخدمة مصلحة المجتمع، وتعزيز أمن الوطن ومكافحة الفساد، وزيادة مشاركة المواطنين والمواطنات في التنمية الوطنية، ولذا فإن رؤية المملكة 2030م، وبرنامج التحول الوطني 2020م هما صمام الأمان، بعد حفظ الله وتوفيقه وتسديده، وبقراءة المؤشرات، ورصد التفاعل يجزم المتابع بأنها كانت رؤية محكمة، وعملاً مباركًا، تحفظ حق الأجيال القادمة، وتؤسس لقوة اقتصادية عظيمة، وواقع مثالي بما يحقق للمواطنين الرخاء والسعادة والتقدم والرقي في مختلف المجالات، اعتمدت الاهتمام بالتنمية الشاملة وفق منهجية واضحة، وخطط علمية، ترفع كفاءة الأداء، وتتعامل مع الحاضر وتستشرف المستقبل من أجل التوجه نحو تنوع مصادر الدخل، ورفع مستوى الإسهام، والمشاركة في البناء من الجميع، وبما يستوعب التحولات المختلفة إقليميا ودوليا وتنبؤات المستقبل وخططه بصورة تدريجية واقعية في أولويات مرتبة، تنعكس -بإذن الله- تعالى لمواطن هذه البلاد رفاهيةً وازدهاراً، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، والإسكان والموصلات، بل حتى في المجالات السياسية.
ومن الدلالات: الاهتمام بدور القطاع الخاص، فقد أمر -أيده الله- بتوجيهه الكريم بدعمه وتحفيزه بمبلغ 72 مليار ريال، وعدّه -حفظه الله- شريكاً مهماً في التنمية، ودعم الاقتصاد الوطني، والتوسع في توظيف شباب الوطن وشاباته، وتوطين التقنية، وهو العنصر المهم في هذه الرؤية المباركة، ومرتكز التحول من الاستهلاك والاتكالية، والسلبية إلى التفاعل الرشيد والمشاركة الإيجابية، والإسهام المسئول من كل فئات المجتمع، وهذا إيذان بمرحلة واعدة من العطاء والنماء، تضلله مشاعر الولاء والانتماء واللحمة والوفاء.
ومن الدلالات المهمة أيضًا: ما أكد عليه خادم الحرمين الشريفين
-يحفظه الله- بأن الفساد بكل أنواعه وأشكاله وصوره آفة خطيرة، تقوض المجتمعات، وتحول دون نهضتها وتنميتها، والعزم على مواجهته بعدل وحزم، لتنعم بلادنا -بإذن الله- بالنهضة والتنمية التي يرجوها كل مواطن، وذلك ما بدأ تحقق على أرض الواقع من خلال لجنة عليا لقضايا الفساد العام، برئاسة الأمير الشهم، والطود الشامخ، والحكيم الناصح، صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وهذه اللجنة التي تبنت المحاسبة تضاف إلى جهود هذه الدولة المباركة في هذا الشأن، وامتدادًا لتطبيق الشريعة الغراء في كل شأن إذ إن النصوص والقواعد والمقاصد واضحة في محاربة هذا الداء الذي يقضي على كل خير وفضيلة، فكان هذا الموقف الموفق المسدد الذي انطلق من الموقف الشرعي، واستصحبت دولتنا الرشيدة هذه المعاني، وبنت عليها تلك اللجنة المشكلة للوقوف في وجه المتورطين في الفساد، والتي أثمرت قوة في الحق، وحزمًا في المواقف، ضيعت الفرص على من فسدت ضمائرهم، وتجرأوا على المال العام، وهم كما قال مليكنا فئة قليلة شاذة، لا تعكر على الأصل العام، والسواد الأعظم، الذي عرف عنه النزاهة والصفاء والنقاء، والبعد عن الشبهات، ولذا فإن سد هذه الثغرة على هذه المجموعة سيكون بداية لحقبة مباركة، شعارها مراقبة الله، والأمانة وتحمل المسؤولية، ومحاربة كل سبل الفساد، وكل ذلك بالعدل في المقال والحكم، والعدل أساس الملك، ومملكتنا الحبيبة، ودولتنا الفتية اتخذت هذا المنهج أسلوب حياة، وأساس الحكم والتصرف، أعلنها خادم الحرمين الشريفين، ملك الحزم والعزم، وعززها سمو ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، فاللهم أدم علينا نعمة ولايتهم، وأدم عليهم نعمك وآلاءك.
ومن الدلالات المهمة: الاهتمام بالتنمية الشاملة وفق رؤية حكيمة وخطط علمية ترفع كفاءة الأداء في معادلة تتعامل مع الحاضر وتستشرف المستقبل من أجل التوجه نحو تنوع مصادر الدخل، ورفع مستوى الإسهام، والمشاركة في البناء من الجميع، وبما يستوعب التحولات المختلفة إقليميًّا ودوليًّا، تنعكس بإذن الله تعالى على مواطن هذه البلاد وقاصديها رفاهيةً وازدهاراً، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، والإسكان والموصلات، قال -حفظه الله-: «تسعى بلادكم إلى تطوير حاضرها وبناء مستقبلها والمضي قدماً على طريق التنمية والتحديث والتطوير المستمر بما لا يتعارض مع ثوابتها متمسكين بالوسطية سبيلاً والاعتدال نهجاً كما أمرنا الله بذلك معتزين بقيمنا وثوابتنا»، وما من شك أنها رؤية تتجاوز التحسين إلى مرحلة متطورة، تعتمد سرعة القرار، واختصار الإجراء، وتكامل الأدوار.
ومن الدلالات المهمة: التأكيد على تمسك المملكة العربية السعودية والتزامها المنهج الوسطي المعتدل الذي يصون الشريعة، ويرعى الحقوق، ويحارب التطرف والغلو، وينبذ أشكال استغلال هذا المنهج كافة، فقال -أيده الله- بكلمات موجزة بديعة: «رسالتنا للجميع أنه لا مكان بيننا لمتطرف يرى الاعتدال انحلالاً ويستغل عقيدتنا السمحة لتحقيق أهدافه، ولا مكان لمنحل يرى في حربنا على التطرف وسيلة لنشر الانحلال واستغلال يسر الدين لتحقيق أهدافه، وسنحاسب كل من يتجاوز ذلك فنحن -إن شاء الله- حماة الدين وقد شرفنا الله تعالى بخدمة الإسلام والمسلمين ونسأله سبحانه السداد والتوفيق».
كلمات ذهبيات، وروائع من درر السياسة، ونهل من المعين الصافي، وتأكيد على دور الوسطية في محاربة طرفي النقيض، فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراطًا ولا تفريط، بل توازن يمثل منهج الحق، وموقف العدل الذي يغلق الباب أمام الأطراف كلها، فالغلو الذي يتجاوز منهج الوسط، ويجنح إلى الشطط ويشبه بالنصوص، ويوظف الغير والحماسات، ويمرر من خلال جماعات وتنظيمات وأدلجات فكرية، ويحاول استثمار كل فرصة للوصول إلى أجنداته وأجندات من يقف وراءه من قوى وتنظيمات بل ودول، ويحاربنا في منطقة الوسط التي يراها انحلالاً، ويوظف التحولات التي تبنى على الفقه المقاصدي، والرؤية المتوسطة، فيجيش فيها على اعتبار أنه يرى ذلك انحلالاً، وهو الفهم الذي يميز ديننا، ويقدمه في ظل المتغيرات والأحداث والنوازل، فهذا طرف، ويقابله الطرف الآخر الذي لا مكان له، وهو الذي يستثمر مواقف للتطرف والغلو والإرهاب فيمرر من خلالها مشروعات تغريبية، وأفكاراً منحلة، وربما يقدمها على أنها معالجات للتطرف، فهو الآخر مرفوض، وما من شك أن هذا الموقف هذا الفهم هو نصر للدين وإعزاز له، من دولة الحق والعدل والوسطية، ومن مليك همام قيّضه الله وهيأه لتكون منه هذه المواقف الحازمة التي تغلق الطريق على كل من أراد تشويه الحقائق، وتلبيس الحق بالباطل من الطرفين، ولا عجب من هذه النظرة من وطن الإسلام والسلام، ومهوى الأفئدة، ومرجع العالم الإسلامي في تحديد معيار الوسطية ومنهجها، كيف لا وهي وطن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته والتابعين لهم بإحسان، فأهلها وعلماؤها هم أحرى أناس بالفهم الذي يمتد في جذوره إلى عهود السلف، وقد عشنا هذه الوسطية في بيئتنا قبل أن تشوه بالأفكار الوافدة، والتيارات المعادية، والله المستعان، ودولتنا المباركة بهذه الرؤية بلغت ذرا العز والمجد، وحققت مكانة أثبتت بها أنها ثقل لا يمكن تجاوزه، وخدمت قضايا السلم والأمن الدوليين، وقد استقت هذه المواقف من الشريعة الغراء، والرسالة السمحاء، التي تدعو إلى السلام والتسامح والعدالة حتى مع الغير، وتدعو المسلمين إلى معاملة الناس معاملة حسنة ليتحقق المقصود من دعوة غير المسلمين، ويتحقق وضوح صورة الإسلام بعيدًا عن التشويش والتدليس، وفي مقابل ذلك تقف في وجه كل من يستغل هذه الصورة الوسطية لتبرير انحرافه وضلالاته، فالدولة قائمة بدورها في ضبط السياسة، والوقوف في وجه كل من يروم سوءًا أو فسادًا أو انحرافًا.
ومن المضامين المهمة: التأكيد على منهج المملكة العربية السعودية الثابت فيما يتعلق بالعلاقات الدولية والشؤون الخارجية وعلى الأخص قضية فلسطين، تلك القضية التي ما فتئت المملكة قيادة وشعباً تدعمها بكل الوسائل المتاحة؛ سعياً إلى تحقيق العدل ورفع الظلم عن هذا الشعب حتى ينال حقوقه المشروعة، وتبدي هذه البلاد العزيزة، والوطن الكريم الاستنكار والأسف الشديدين للقرار الأمريكي بشأن القدس؛ لما يمثله من انحياز كبير ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخي والثابت في القدس، التي كفلتها القرارات الدولية، وحظيت باعتراف وتأييد المجتمع الدولي.
وهذه السياسات الحكيمة التي تنطلق فيها دولتنا المباركة من التمسك بالإسلام وقيمه وأحكامه، والشعور بشعور الجسد الواحد الذي يجعل قضايا المسلمين وما يحل بهم فوق كل اعتبار، وهي في ذلك تساهم وتشارك بكل ما أوتيت من ثقل وقوة عالمية لتوظف مكانتها العالية ومنزلتها المنيفة في مشاركة المسلمين قضاياهم ومعاناتهم، وها نحن نشعر وبكل فخر واعتزاز أن بلادنا الحبيبة، ووطن الإسلام المبارك يفرض نفسه في كل المحافل الدولية كرائد للحزم والعزم، وقائدنا ومليكنا بمبادراته وحكمته وحنكته يسعى جاهدًا لتذليل التحديات والعقبات، وتجسيد الطموحات والآمال واقعًا حيًا، وتقوم على هذه الأسس التي ينطلق فيها من ميزات الإسلام وخصائصه وقيمه وثوابته، وتنبذ كل مظاهر الغلو والتطرف، والإرهاب والإفساد، ويكون الخطاب الوسطى هو الصورة المثالية التي تفرض نفسها كبديل لطرف النقيض، فالحمد لله الذي وفق خادم الحرمين الشريفين إلى مثل هذه المساهمات المؤثرة، التي غيرت كثيرًا من المفاهيم والتصورات التي كان يحملها البعض عن الإسلام عمومًا، وعن بلاد الحرمين خصوصًا.
وبعد: فهذه كلمات خادم الحرمين الشريفين القائد الفذ، والإمام العادل، ملك الحزم والعزم، الذي حدد في هذا الخطاب الملكي السياسية الحكيمة الداخلية والخارجية، والمنهج السديد، والقيم النبيلة، والقرارات الإستراتيجية التي تقود المملكة إلى مصاف الدول المتقدمة، ومسؤوليتنا أن نكون صفًا متراصًا، ولحمة تستعصي على الفرقة، وجسدًا قويًا في مواجهة هذه التحديات.
وحقاً إنها كلمات من القلب نفذت وإلى كل القلوب وصلت، ويقيني أن كل مواطن يشعر بالفخر والاعتزاز والغبطة والسعادة والروح العالية وهو يسمع هذه العبارات من خادم الحرمين الشريفين تفيض عليه هذه المشاعر وتشعره بالرضا وترسم له تطلعات القيادة للمستقبل القريب والبعيد، فالخير -بإذن الله- متيقن، والولي مرفوع، والعدو موضوع.
فحييت يا خادم الحرمين الشريفين، وسدد الله خطاك وبارك الله مسعاك، وحماك الله من كل سوء ومكروه، سر ونحن جنودك الأوفياء وإلى مراقي العز والعلا.
والله أسأل أن يديم علينا أمننا وإيماننا وولاة أمرنا وأن يوفقهم إلى كل خير ويحميهم من كل سوء ومكروه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.