عمر إبراهيم الرشيد
سألت ابني ذا الخمسة الأعوام في إحدى ليالي العطلة الصيفية الفائتة عن سبب سهره ففاجأني برده بالعربية الفصحى قائلاً (العدالة لا تنام)، وبين دهشة وضحك سألته من أين له بتلك العبارة فأجاب بأنه سمعها من المسلسل الكرتوني الذي يتابعه. حقيقة تكاد تنحصر فوائد المسلسلات الكرتونية حالياً في لغتها العربية الفصيحة وتعريف وتعويد الطفل لنسقها وجمالها ومفرداتها وهذا يحسب لها بالطبع وللمؤسسات المعنية بالترجمة، بينما كانت المسلسلات الكرتونية في السابق أمثال (سنان، هايدي، حكايات عالمية، عدنان ولينا وغيرها) تحمل في حبكاتها دروساً وقيماً تعلّم الطفل وترفع من ذائقته وحسه الإنساني بقالب محبب وحميمي، كقيم الأمانة، العمل، التعاون والوفاء وغيرها من القيم التي تنهض بالإنسان وتبني شخصيته وترفع من قدره. إنما لحق المسلسلات الكرتونية الحالية وبكل أسف ما لحق غيرها من الأعمال الدرامية من إسفاف وتهريج وإبهار بصري وفني على حساب تعليم الطفل القيم التي يحتاج تعلّمها حاجته للغذاء، بل إن كثيراً من هذه المسلسلات الكرتونية فقدت براءتها إن صح التعبير، وغدت وكأنها موجهة للكبار وليس لتلك العقول البريئة والقلوب النظيفة، كائنات ممسوخة وسيناريوهات سريالية كما قلت تشتت ذوق وتفكير الصغار. ولذلك لجأت القنوات الخليجية التي تعنى بإعادة بث الأرشيف مثل (دبي زمان) و(القرين) لتقديم تلك الأعمال الكرتونية الناجحة ضمن تقديمها للرصين من الأعمال والمواد، وكم كان تفاعل الكبار ممن عاصر تلك الأعمال حين قدمت في وقتها، مع الفرحة بهذه الأعمال التي تثير في وجدانهم ذكريات حميمة مع شيء من الحسرة والحنق على ما يقدّم هذه الأيام، فيتسمّرون أمام الشاشة بغية استعادة شيء من الماضي حد البكاء بصمت.
يكفي اللغة العربية فخراً استمراريتها وبقاء مصدرها الأعظم محفوظاً بحفظ الله ومعجزة خالدة مخلدة. أضف إلى ذلك أنها أقدم اللغات ومنها تفرَّعت لغات عدة، على أن لغات سامية أخرى اندثرت مثل السريانية والآرامية، لكن بقيت اللغة العربية حيَّة ناصعة رغم تراجع حضارتها والأمة الناطقة بها. وللتذكير فإن أقدم مخطوط وجد مكتوباً باللغة العربية في منجم للأحجار الكريمة في سيناء وعمره أربعة آلاف سنة. أما ضعف انتشار اللغة أو استخدامها فهذا خاضع لأمور حضارية منها مدى تقدّم وقوة الأمم الناطقة بها، فأيام الأندلس العربي حين كانت أزقة غرناطة تضاء بمصابيح الزيت بينما لندن وباريس تغرقان في الظلام، كان الطلبة الغربيون الدارسون في جامعات الأندلس يطعمون كلامهم بمفردات عربية، تماماً كما يفعل البعض منا بلفظ كلمات إنجليزية للظهور بمظهر المتعلِّم. على أنه لا بد للغة أن تستورد أو تتأثر باللغات الأخرى نتيجة الاحتكاك والتعامل البشري واستيراد المنتجات على اختلاف أصنافها، ولا عيب أن نعرف مسمياتها ونتعلّمها، لكن المعيب أن نعتمدها كمفردات بديلة لما يقابلها بالعربية إن كانت موجودة، خصوصاً في المنتجات التقنية والاستهلاكية.
هذا اليوم يصادف اليوم العالمي للغة العربية، وحبذا التذكير بهذه اللغة الخالدة رسمياً وشعبياً وللنشء والشباب على وجه الخصوص، فاللغة هوية الشعوب وحاضنة فكرها وثقافتها، وستظل لغة الضاد عالية خالدة بخلود عينها كلام الله ومعجزة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كانت الأمة الناطقة بها تمر بدورة ضعفها إلا أنها سوف ترقى مرة أخرى بإذن الله تعالى، فالمجد للعربية.