اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
تابعت بألم شديد، وأسف أشد، كسائر أُمَّة المليار والنصف مليار مسلم، والثلاثمائة مليون عربي في مشارق الأرض ومغاربها، قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المشؤوم، مساء يوم الأربعاء 18 /3 /1439هـ، الموافق 6 /12 /2017م؛ بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني، ذلك القرار الجبان المخزي الذي رأى فيه الكل صنواً لقرار بلفور في الثاني من نوفمبر عام 1917م، الأشد شؤماً الأكثر لؤماً، الذي وعد بموجبه الصهيانة باقتلاع الفلسطينيين من جذورهم وتأسيس وطن قومي لهم على أرض فلسطين. كما تابعت ردود الفعل الدولية على قرار ترامب هذا، الذي لم يكن قطعاً مفاجئاً لكل العالم تقريباً، بسبب إدراك الجميع، منذ اللحظة الأولى لترشيح ترامب لرئاسة أمريكا، إنه رجل لن يقوى على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة في قيادة أقوى دولة في العالم، بأكثر من عقلية تاجر العقار في أحسن الأحوال.. وقد كان كما رأينا كلنا.
كما تابعت من جهة أخرى، جلسة مجلس الأمن الطارئة التي عقدت مساء الجمعة 20 /3 /1439هـ، الموافق 8 /12 /2017م، بعد يوم واحد فقط من قرار ترامب المشؤوم هذا، لمناقشة حيثياته وما قد يترتب عليه من آثار (لا تُحْمِدُ عقباها).
وعلى كل حال، أنا لست هنا بصدد لوم بلفور ولا لوم ترامب، فكل منهما كان يعمل لمصلحة بلاده، وبالطبع لمصلحته الشخصية، وقد اعتدنا منذ أن تفتحت أعيننا على الدنيا، أن حقوق العرب والمسلمين وكرامتهم، ليست أكثر من مجرد مادة دعائية دسمة لإرضاء قواعد زعماء الغرب الانتخابية، من أوروبا إلى أمريكا، وتحقيق أحلامهم. فكل من يترشح لرئاسة هنا أو هناك، يوعد ناخبيه بإذلال العرب والمسلمين وتأديبهم. وهم على كل حال، على وفاق تام لتنفيذ كل ما يريدون من أجندة ضدنا، ثم اقتسام الأدوار لإكراهنا، وأحياناً استغفالنا لتصديق كل ما يروجون له لابتزازنا.
فبعد دقائق معدودة من إعلان ترامب قراره المشؤوم بشأن القدس، خرج علينا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، يقول إنه يرى إن الحل في (إقامة دولتين). يعني أن الأمم المتحدة معكم يا عرب قلباً وقالباً (بالكلام طبعاً)، ولا تلتفتوا لما قاله ترامب. ثم ما هي إلا بضعة دقائق حتى يخرج رئيس وزراء دولة الكيان الصهيوني نتنياهو، معبراً عن امتنان قومه وعرفانهم وجزيل شكرهم وتقديرهم للرئيس (العبقري) ترامب، ولقراره (الشجاع العادل). وكل واحد من هؤلاء الثلاثة قال ما قلَّ ودلَّ في بضعة دقائق أو ثوانٍ أحياناً، كما فعل نتنياهو، ثم التفت إلى العمل.
وعلى الجانب الآخر، كان محمود عباس، رئيس (السلطة الوطنية الفلسطينية)، آخر هؤلاء إعلاناً؛ فاستطرد وأطنب، مستخدماً كل أدوات اللغة البيانية من بلاغة وسجع في خطاب مطوَّل؛ استغرق من الوقت أضعاف ما استغرقه الثلاثة السابقون في الجهة الأخرى (ترامب، الأمين العام للأمم المتحدة ونتنياهو). وهو خطاب كما توقعه الكل، أقرب ما يكون إلى خطابات القومجية العرب، وقد وصفه كل المراقبين بأنه حشو وإسفاف، أدهش حتى العدو الصهيوني في تواضع ردَّة فعله على جريمة كهذه في وقت عصيب كهذا.
ويقال الشيء نفسه في ما يتعلق باجتماع مجلس الأمن الطارئ الذي أشرت إليه سابقاً، ففي حين ألقت مندوبة أمريكا (هيلي) كلمة قوية ثابتة بعبارات واضحة موجزة، تذهب للهدف مباشرة، مستفزة حتى الأمم المتحدة نفسها التي (أضرَّت بعملية السلام وكانت منبراً للعداء والكراهية لإسرائيل) حسب تعبيرها؛ فكانت بهذا أشد إسرائيلية من الإسرائيليين أنفسهم، لدرجة أن من لم يعرفها يعتقد أنها مندوبة إسرائيل، وليس مندوبة أمريكا. ثم جاء (أخونا) ممثل فلسطين، فسار على نهج رئيسه عباس في الإطناب والإسهاب وتذكير الأمم المتحدة بحق الفلسطينيين، مع علمه أن الأخيرة تعرف حق فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، لكنها زاهدة في نصرتهم. وإن كان هذه المرة قسَّم المندوب الفلسطيني في الأمم المتحدة خطابه إلى جزءين؛ الأول: باللغة العربية، مع ما شابها من لحن، وربما كان هذا هو السر الذي يدفعه للتحدث في المحافل الدولية باللغات الأجنبية، بخلاف سلامة لغة رئيسه، مع افتقارها لأي محتوىً يخص علاج الموقف الخطير الذي فجَّره الرئيس الجدلي ترامب. وعلى كل حال، يبدو أنه قرأ انتقادي له في مقال سابق للإصرار على الحديث في المحافل الدولية باللغات الأعجمية، وكأنه وأمثاله، يخجلون من لغتهم، لغة القرآن.. للأسف الشديد.
والحقيقة، ما قيل عن محتوى خطاب عباس ومندوب فلسطين في الأمم المتحدة، يقال أيضاً عن الاجتماع (الطارئ) لوزراء خارجية الدول العربية، الذي عقد في القاهرة مساء يوم السبت 21 /3 /1439هـ، الموافق 9 /12 /2017م؛ الذي لم يفض (كالعادة) إلى نتائج حاسمة يمكنها أن تؤثر بأي شكل في هذا الواقع المرير.
وبالطبع، على خطى هيلي، جاء مندوب بريطانيا، حفيد بلفور (كبيرهم الذي علمهم كيف يمكن قضم فلسطين قطعة بعد قطعة.. حتى القدس)، مقترحاً أن تكون القدس عاصمة (مشتركة) للدولتين، الإسرائيلية و(الفلسطينية)، باعتبار ما يكون! ثم جاء دور مندوب الكيان الصهيوني، فلبس جلد الثعلب كعادة بني صهيون دائماً، واندفع في حديثه يغسل العقول لتغييب الوعي وإعادة البرمجة ليصدق الناس ما يقول.
وبعيداً عن فلسطين ومجلس الأمن وجامعة الدول العربية، هبَّت الدول الإسلامية رسمياً وشعبياً، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، دولة الرسالة والتوحيد، قبلة المسلمين وبيت العرب الكبير، ترفض القرار (الترامبي)، محذرة مما قد يترتب عليه من تداعيات خطيرة، قد تكون أسوأ كابوس على العالم برمته، بما فيه أمريكا نفسها، من خطر الدواعش الذي يلفظ اليوم أنفاسه الأخيرة بعد جهد جهيد.
وصحيح، يظل في الإمكان دوماً أكثر مما كان، كما يؤكد أخي خالد الفيصل، مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة؛ لكن هذا ما تيسر اليوم في ظل هذا الظرف العصيب الذي تمر به منطقتنا، وتلك التحديات الجسيمة والمسؤوليات العظيمة التي تضطلع بها بلادنا نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية في عدة جبهات، من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن.
لكن للأسف الشديد، كما اعتدنا دائماً في مثل هذه الظروف، انبرت فئة غوغائية، أو قل شرذمة من (المصلحجية) و(القومجية) والمخذلين والمتآمرين المندسين، أعضاء الطابور الخامس؛ الذين لم تزد مؤهلاتهم عن ربطة عنق بعشرة ريالات، لأن من يفهم في التاريخ والمنطق والسياسة والعلاقات الدولية والشؤون الدبلوماسية، لا يرضى لنفسه بمقعدهم؛ لإدراكه جيداً أنه يتناقض مع نفسه ويخالف الواقع ويزور الحقائق ويبيع ذمته بثمن بخس، بل قد يصل الأمر إلى خيانة العقيدة والطعن في الإيمان إن كان صحيح الإيمان.. أقول، انبرت تلك الفئة لكيل الاتهامات للمملكة العربية السعودية، بقصد إضعافها والتشكيك في سلامة موقفها وريادتها للعالمين العربي والإسلامي، مع إدراكهم لتلك الحقائق الناصعة. وكأنه مكتوب عليها أن تتحمل كل خيبات بعض العرب والمسلمين وطيشهم واستهتارهم وعدم معرفتهم لمسؤوليتهم، فضلاً عن تحملها لجوهر رسالتها التي تسعد بها وتعتز، بهمة الرجال وشجاعة القادة الأفذاذ الأبرار وصدقهم وإخلاصهم.
ولأولئك الغوغائيين أقول:
1 - لماذا لم تطالبوا محمود عباس، وهو المسؤول الأول اليوم عن مشكلة فلسطين بفك كل ارتباطاته مع الكيان المحتل، بما فيها فضَّ شراكة التنسيق الأمني الذي يؤَمِّن للعدو الغاصب زج المقاومين الفلسطينيين في غياهب سجون الاحتلال المظلمة الظالمة الموحشة المهينة للكرامة الآدمية، وهدم منازلهم على رؤوس أمهاتهم وأطفالهم وشيوخهم، وقذف الأطفال بالزجاجات الحارقة على مهد الطفولة، وتجريف أشجارهم وطردهم من أراضيهم والاستيلاء عليها؟.
2 - لماذا أيها الغوغائيين لم تحتجوا على أردوغان تركيا، الذي درج على استغفالكم ببعض الخطب الرنَّانة، في حين إنه سبق ترامب في اعترافه لبني صهيون بالقدس عاصمة لدولتهم التي اغتصبوها من الفلسطينيين، وزوَّد الكيان الصهيوني بالتعاون مع بعض المسؤولين (البارزين) في حركة فتح (حركة التحرير الفلسطينية) بالأسمنت لتشييد ناطحات السحاب والجدار العازل لتقطيع أوصال الأرض وخنق الشعب الفلسطيني؟.
3 - لماذا يا هؤلاء لم تحاكموا حركة (حماس) (حركة المقامة الإسلامية) على إصدارها وثيقتها الأخيرة، التي رفعت بموجبها الراية البيضاء للمحتل؛ تلك الوثيقة الانهزامية التي أرى إنها كانت العامل الأهم الذي دفع ترامب اليوم لقراره الطائش الغوغائي هذا، مثل غوغائيتكم؟.
4 - لماذا لم توجهوا سهامكم المسمومة المترعة برائحة الجهل والتسطيح والمؤامرة لبريطانيا التي يؤكد مسؤولوها بملء الفيه إنهم لا يخجلون من تاريخهم الاستعماري؛ أي يفتخرون به ويعتزون، بسبب إعلان انتداب بريطانيا على فلسطين، ثم التخلي عنها بليل والناس نيام لتسليمها لبني صهيون، ومن ثم تزويدهم بالمال والرجال والسلاح والموقف السياسي وفاءً لوعد كبيرها بلفور؟.
5 - لماذا أيها السُّذَّج لم توجهوا سهامكم الحاقدة للدول التي وقَّعَت معاهدات سلام مع الكيان الغاصب، ورفعت علمه عالياً خفاقاً في سمائها، إلى جانب علم بلدانكم، إن كنتم تعرفون للوطن معنىً، في سفارات الدولة الصهيونية لديها؛ ولم تكتفِ تلك الدول بهذا، بل ذهبت بعيداً لكبت كل صوت معارض للاحتلال، حتى في الاحتجاجات السلمية، في التزام خانع ذليل بموجب تلك الاتفاقيات لحماية ظهر العدو؟.
6 - لماذا لم تطالبوا تلك الدول على الأقل باستضافة الفلسطينيين ومساعدتهم، وفتح الحدود لهم ليمارسوا حياة كريمة حتى يشاء الله لهم مخرجاً للعودة إلى بلادهم بعد طرد المحتل، كما فعلت السعودية التي فتحت قلبها وبابها وجيبها لهم، حتى قبل الاحتلال الصهيوني لها؟.
7 - لماذا يا هؤلاء لم تهبوا لنجدة الفلسطينيين عندما كانت تمزق أشلاءهم صواريخ اليهود داخل الأراضي المحتلة، وتلاحقهم الموساد في بلدان الشتات، بتواطؤ مع زعمائها، إن لم يكن بدعم صريح منهم، فتفجِّر منازلهم على رؤوسهم مع أطفالهم ونسائهم؟.
8 - لماذا لم تبصر عينكم الكليلة كل هذا التواطؤ الواضح الفاضح مع دولة الاحتلال ضد نساء فلسطين وأطفالها وشيبها وشبابها وأشجارها وثرائها الطاهر؟.
9 - لماذا يا هؤلاء لم تحملوا بنادقكم وتتجهوا لتدمير الكيان الصهيوني، وهو يضرب بعرض الحائط كل قرارات ما يُعْرَف بـ (المجتمع الدولي)، التي من بينها خمسة قرارات أممية خاصة بالقدس وحدها؛ تؤكد كلها بطلان إدعاءات الكيان الصهيوني بأحقيته في مدينة القدس؟.
10 - لماذا لم توجهوا سهامكم المسمومة تلك لأولئك الذين فرشوا السجاد الأحمر للصهاينة واستقبلوهم حتى في غرف نومهم، معلنين إنهم إخوة تربطهم بهم مصالح مشتركة؛ ولم يستطيعوا، بل لم يفكروا في انتقاد الاحتلال حتى إن كان ذلك على استحياء، بعدما هددتهم غانياتهم بفتح ملفاتهم السوداء ولياليهم الحمراء في عواصم أوروبا معهم؛ ولو لا شيء من حياء يمنعني، لذهبت أبعد من هذا في كشف تلك الصفحات السوداء، كقلوب أولئك المتآمرين على مهبط الوحي وأرض الرسالة الخالدة السامية العظيمة.
11 - لماذا لم توجهوا سهامكم يا مخذلين لدولة الملالي حين اجتاحت العراق وسوريا ولبنان واليمن، بدلاً من توجيه آلة دمارها تلك، إن كانت حقاً صادقة، لصدر الكيان الغاصب المحتل؛ فقامت بالمهمة نيابة عنه في تفتيت الدول العربية وإضعافها، حتى لا تقوم لها قائمة، أو تشكل أي خطر عليها حاضراً أو مستقبلاً؛ إضافة إلى إنها شغلت العالمين العربي والإسلامي، وفي مقدمتهما السعودية، بصنيعها هذا عن التفرغ لعدو العرب والمسلمين التقليدي وقضيتهم الجوهرية.
ابحثوا عن إجابة هذا السؤال في السِّر الذي دفع ترامب للطلب إلى السعودية فك حصارها عن عملاء دولة الملالي، الذين أصبحوا يتبجحون بانفرادهم بحكم اليمن والسيطرة عليها، خاصة بعد غدرهم بحليف اليوم، عدو الأمس، على عبد الله صالح عفاش، بتلك الطريقة البشعة المهينة؛ ثم سر تراجع ترامب عن وعيده وتهديده بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران.. ألم يكن هذا أيضاً وعداً انتخابياً، أم أنكم تجهلون هذه الحقيقة. وعلى كل حال، لم يعد يدهشنا أن تكونوا يا هؤلاء مثل ترامب: لا تفقهون في السياسة شيئاً، كما يصفه قومه.
12 - لماذا لم توجهوا يا هؤلاء سهامكم المسمومة لأولئك الذين وقفوا أكثر من مرة ضد قرارات مجلس الأمن التي تدين الكيان الصهيوني وتجرمه، وتطلب تقديم جلاديه إلى المحاكم الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد أطفال فلسطين ونسائها، بمن فيهم رئيس سلطتها (الوطنية) محمود عباس؛ فضلاً عن تغنيهم دائماً أن بلدانهم أولاً، والآخرين إلى الجحيم .. لا القدس أو فلسطين؛ على النقيض تماماً من السعودية التي تؤكد في كل محفل دولي أن قضية فلسطين هي قضيتها الأولى التي تحتل أول درجة في سلَّم أولوياتها.
13 - ولماذا يا هؤلاء عاد ترامب بعد ساعة واحدة فقط من إعلانه المشؤوم بخصوص القدس، ليطالب السعودية بفك الحصار عن اليمن لكي يفسح المجال أمام الإيرانيين لدعم الحوثيين لإحكام قبضتهم على اليمن بعد رحيل صالح؟ فهل صحيح في علم السياسة أن ترامب سيقدم على خطوة كهذه إن كانت السعودية فعلاً متواطئة معه بشأن القدس وفلسطين وصفقة القرن وغير هذا من تلك الأكاذيب والترهات التي تروجون لها؟.
فلماذا... ولماذا... يا هؤلاء كل هذا الحقد والغل والحسد على الأرض المقدسة التي شرَّفها الله ببيته العتيق ومثوى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلَّم وجعلها قبلة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟!.
والحقيقة، أعرف إنكم تدركون الإجابة، غير إنكم لن تجرؤوا على التفوه بها. أما لماذا لم تبصر عين سخطكم يا هؤلاء جهد السعودية والتزامها، ليس تجاه فلسطين وحدها أو القدس؛ بل تجاه سائر قضايا العرب والمسلمين والمضطهدين والمعذبين في الأرض في كل أرجاء الدنيا؟ ففي تقديري يعزى السبب لجهلكم بالتاريخ وفقركم السياسي، فضلاً عن سوء نيتكم، وحقدكم الدفين، وخضوعكم لمن أستأجركم للنفخ في رماد نار الفتنة، وبحثكم عن المال بأي وسيلة؛ لا أقول حتى إن كان على حساب المبادئ، فمثلكم لا يعرف المبادئ وأخلاق الرجال وحكمة الكبار كالسعوديين.
فهل تعلمون يا هؤلاء أن الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن الفيصل، مؤسس دولتنا هذه وصانع مجدها، هو الملك العربي المسلم الوحيد الذي حمل دون سائر زعماء العرب والمسلمين في عهده، عبء قضية فلسطين. وكان وحده هو الذي وقف في وجه تشرشل وروزفلت في أواخر الحرب العالمية الثانية، يوم كنتم أنتم يا هؤلاء مجرد نطفة نتنة في ظهر والديكم؛ وواجههما بظلم الحلفاء للعرب عامة وللفلسطينيين خاصة في الحرب العالمية الأولى، وانتزاعهم حقهم وتقديمه لليهود على طبق من ذهب؟.
وهل تعلمون يا هؤلاء أن الملك عبدالعزيز هو صاحب تلك المقولة الشهيرة التي يتشدق بها أمثالكم من المخذلين للأمة اليوم، بشأن وعد بلفور المشؤوم، عندما رفضه في حينه معلقاً عليه: (لقد أعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق)؟.
وهل تعلمون يا هؤلاء أن الملك عبدالعزيز كتب للإنجليز مؤكداً: (لو قلت لكم إن هنالك ذرة واحدة في جسدي لا تدعوني لقتال اليهود، لكنت أكذب. لو ذهبت كل أملاكي وتوقف نسلي لكان أسهل عليَّ من أن أرى موطئ قدم لليهود في فلسطين). مضيفاً: (إني أفضل أن تفنى الأموال والأولاد والذراري، ولا يتأسس لليهود ملك في فلسطين). ومحذراً العرب جميعاً، في وقت كان الكل يغط في سبات عميق: (إن مطامع اليهود ليس في فلسطين وحدها، بل إن ما أعدوه من العدد يدل على إنهم يبيتون العدوان على ما جاورها من البلدان العربية)؟.
هل اطلعتم يا هؤلاء على رسائل عبدالعزيز مع مفتي القدس رئيس اللجنة العربية العليا، الحاج محمد أمين الحسيني، ولقائه مع روزفلت الذي أدهشه عبدالعزيز بقوة إصراره على ضرورة العمل مع بريطانيا على إعادة اليهود إلى من حيث أتوا، مما اضطر روزفلت للتعليق قائلاً: (... فقد وعيت مثلاً عن مسألة الجزيرة العربية، تلك المشكلة بحذافيرها.. مشكلة المسلمين ومشكلة اليهود، وعيت عنها في حديث دام خمس دقائق مع ابن سعود، أكثر مما كنت أستطيع معرفته بتبادل ثلاثين أو أربعين رسالة)؟.
وهل تعلمون يا هؤلاء أن السعودية كانت أول دولة رفضت تقسيم فلسطين، وأن الملك عبدالعزيز عبأ الشعب وشكَّل لجنة حينها لإغاثة فلسطين برئاسة ابنه الأمير محمداً، فكان أول سابق لدعم فلسطين بهذا الشكل غير المحدود، فَسَنَّ بذلك سُنَّة محمودة، سار عليها جميع أبنائه البررة الذين تعاقبوا على قيادة المسيرة بعد رحيله؟.
وهل تعلمون يا هؤلاء أن الملك سعود زار القدس في عهد والده دعماً للفلسطينيين والوقوف على حقيقة أحوالهم ومساندتهم في محنتهم؟ وهل تعلمون يا هؤلاء أن انتصار العرب في حرب السادس من أكتوبر عام 1972م، كان بفضل الله أولاً، ثم بذلك الموقف الاستثنائي الفريد الشجاع في مسار القضية الفلسطينية على الاطلاق، الذي اتخذه الملك فيصل، شهيد فلسطين، تجاه الغرب عندما وظَّف سلاح النفط، فحرمهم منه، فدفع روحه الطاهرة ثمناً لهذا الموقف.. غير آسف؛ نتيجة تآمر الغرب عليه بتحريض اليهود؟ وهل تعلمون يا هؤلاء أن الملك فيصل أمر بتسمية الشارع الذي كان يطل عليه مبنى السفارة الأمريكية في جدة بـ (شارع فلسطين)، ليكون عنواناً لسفارتهم، الأمر الذي يجبر كل أمريكي يريد الكتابة إلى سفارة بلاده في السعودية، على كتابة اسم فلسطين.. فقولوا لي بصراحة يا هؤلاء: هل بينكم؛ أقصد بين من أستأجركم على تواضع تفكيركم، لأنه لن يجد لمثل هذه المهمة الخسيسة أفضل منكم، من يفكر كالفيصل؟.
وهل تعلمون يا هؤلاء أن الجيش السعودي الباسل شارك في كل الحروب العربية من أجل الدفاع عن فلسطين، مثلما فعل في الكويت والبحرين، ويفعل اليوم في أكثر من جبهة، فقدَّم نحو مائتي شهيد وعشرات الجرحى والمفقودين من أجل فلسطين، فضلاً عن عشرات مليارات الدولارات الأمريكية دعماً للمجهود الحربي وللصمود الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة؟.
وهل تعلمون يا هؤلاء أن الملك خالد كان يؤكد في كل محفل أن تحرير فلسطين هو قضية العرب والمسلمين الأولى. وأن الملك فهد هو صاحب مبادرة السلام العربية اليتيمة التي لم يستطع العرب إيجاد بديل عنها منذ تقديمها عام 1981م. وهل تعلمون يا هؤلاء أن الملك عبدالله لم يدَّخر وسعاً في دعم الشعب الفلسطيني ورأب الصدع بين (الإخوة الأعداء) فتح وحماس؛ أم أنكم نسيتم اتفاق مكة؟ هل تذكرون تبرعه لإعادة تعمير غزة بآلاف ملايين الدولارات، ومع هذا يؤكد بكل تواضع: (أدرك في الوقت نفسه أن قطرة واحدة من الدم الفلسطيني هي أغلى من كنوز الأرض كلها وما احتوت عليه)؟.
أما سيِّدي الوالد خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، وسدَّد على طريق الخير خطاه، قائد مسيرتنا اليوم، الذي ينافح بشراسة وحزم وعزم وحسم عن كرامة العرب والمسلمين، أصبح ماركة مسجلة لمقامه السَّامي الكريم، فله مع نصرة القضية الفلسطينية تاريخ حافل طويل، فضلاً عن ترؤسه لكل اللجان الشعبية لمساعدة مجاهدي فلسطين. فبالإضافة إلى ما خلَّده التاريخ من كلمته الضافية الجامعة الشاملة يوم كان أميراً للرياض، عندما شرَّف الاحتفال الذي أقامه سفير فلسطين في الرياض بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لانطلاقة الثورة الفلسطينية في 23 /5 /1409هـ، الموافق 1 /1 /1989م، التي نشرتها كل صحفنا المحلية وقتئذٍ، وأعادت نشرها جريدة الجزيرة يوم الأحد 22 /3 /1439هـ، الموافق 10 /12 /2017م، العدد 16509، في الصفحتين الأولى والثانية من هذا العدد؛ بالإضافة إلى تلك الكلمة الخالدة التي تلجم الجهلاء الغوغائيين، أصدر مقامه السَّامي الكريم قبلها بياناً عند انطلاق الانتفاضة الفلسطينية في 18 /11 /1408هـ، الموافق 12 /7 /1988م، مناشداً الجميع تقديم ما تجود به أنفسهم الكريمة لدعم نضال إخوتهم في الدين وأشقائهم في الدم؛ اقتبس منه: (إن دعمنا للشعب الفلسطيني ومؤازرتنا له وتأييدنا على المستويات والأصعدة كافة، نابع من أواصر الدين والأخوة والمحبة القائمة على أساس من عقيدتنا الإسلامية التي تلزمنا بالمشاركة في نصرة إخواننا أبناء شعب فلسطين في محنتهم وجهادهم وكفاحهم في سبيل استرداد حقوقهم ورفع ما حاق بهم من ظلم جراء العدوان والاحتلال الصهيوني المستمر الجاثم على بيت المقدس وأرض فلسطين. وإن مساندتنا لهم واجبة بجميع أشكال الدعم والمساندة، حتى يتمكَّنوا بإذن الله، من استرداد حقوقهم...)، مضيفاً: (إن شعباً يستمر في الجهاد لجدير بالمشاركة والمناصرة، وحري بنا أن نلازمه الطريق بكل وسائل الدعم كلما سنحت لنا فرص العطاء، وهذه شيمة من شيمنا نحن المسلمين الموحدين بالله الواحد القهَّار).. ووددت أنني استطيع إعادة تلك الكلمة الشاملة الواضحة كلها هنا لو لا ضيق المساحة.
إذن، نصرة العرب والمسلمين هي شيمة أصيلة من شيمنا، بل من أهم البنود في رسالتنا التي من أجلها نشأت دولتنا؛ وعليه فلسنا في حاجة لشهادة أحد، فنحن دولة رسالة، ما قامت إلا لتوحيد الله، وخدمة الحرمين الشريفين، وتوفير الأمن والأمان والراحة والاطمئنان لضيوف الرحمن، ونشر الخير ومبادئ الفضيلة في العالم أجمع.
فاخرسوا واخسئوا يا هؤلاء.. ولا تزايدوا على دولة الرسالة. وليعلم الجميع أن حل قضية فلسطين هو ما أكده القائد الفذ عبدالعزيز منذ عشرات السنين، وأعاده إلى الأذهان شبيهه سلمان في كلمته تلك التي أشرت إليها في احتفال السفارة الفلسطينية بحضور ياسر عرفات: (اتركوا الشعب الفلسطيني يجاهد ويكافح، ومدُّوه بالسلاح والمساعدة حتى لا تتدخل الجيوش العربية المسيطر عليها من الحكومات، وتصبح المفاوضة مع حكومات، فتضطر إلى سحبها كما جرى في الهدنة الأولى).