عبد الرحمن بن محمد السدحان
قال لي بعد أن استوى في المقعد وبدا وجهه محتقناً بشعورٍ ما: هل قرأت مؤخراً عن داء (جنون البقر)؟
قلت: بلى،
قال: فما تقول عنه؟
قلت: (يقولون) أنه ينذرُ بالويل والثبور...!
قال: ليس فيما قلت جديد!
قلت: بل إن الذين تحدّثوا عنه وأفاضُوا حتى الآن، لم يأتوا بجديد، وتبقى الكرةُ الآن في مرمى أهل العلم ليكْشفُوا لنا عنه كل جديد!
* * *
ثم استَدْرَكتُ قائلاً: أليس من الجائز القول بأن (جنون البقر) إفرازٌ لـ(جنون البشر) أو امتدادٌ له؟!
قال: كيف؟
قلت: ألم ترَ ماذا يفعل الإنسان ببهيمة الأنعام حين يصرُّ على تعريضها لـ(طعام) متبّلٌ بـ(الكيمياء) أفلا يمكن أن يكون هذا واحداً من أسباب (جنون البقر)؟!
ثم.. لو كانت هناك أفئدةٌ إنسانية تعنى بهذه الفئة المستضعفة من مخلوقات الله، فتذودَ عنها (سمَّ) الكيمياء، ما جُنَّتْ ولا سبّبتْ لأحدٍ وباءاً ولا أرقاً!
* * *
قال: فما الحلُّ إذن؟
قلت: بعودة الإنسان والماشية إلى أحضان الفطرة الخضراء النقية من الكيمياء.. علّها (تَعقلُ).. وتؤوب إلى واحة الحياة محصَّنةً من الخوف.. منها وعليها؟!
* * *
قال: أتقول هذا جاداً؟
قلت: ولم لا أكون جاداً؟ ليس في هذا الأمر هزؤٌ ولا لعب. ثم.. ألم ترَ أن طقوسَ الحياة المادية وتكاليفَها لم تُبقِ للإنسان الحديث عقلاً، حتى ناله شيءً من المسّ.. أفلاَ (تُجَنُّ) بعض الحيوانات مثله أو بسببه؟!
* * *
لقد تلقف سمعي نبأً بثّته (وكالةُ يقولون) مفادُه أن معشَرَ الدجاج كان في طريقه إلى الجنون أيضاً، ولا أعلم إن كان هذا (الجنون) يأتي تأثراً بما أصاب البقر، أم أنه جديد. والطريف في الأمر أن النبأ زعم أن (جنون الدجاج) سيقتصر على المستَورد منه، فقلت لنفسي لحظتئذٍ معلقاً: إذن.. فهي (مؤامرة) يبيّتُها الدجاج المحلي ليدرأَ عن نفسه وباء (المنافسة) له في عقر داره من خارج الحدود!
* * *
قال: لو رجحتْ صحةُ النبأ الأخير.. فما أنت فاعل؟
قلت: أمام جنونُ البقر ومسّ الدجاج، وتلوّث أحشاء بعض أصناف الغنم.. لم يبقَ لمائدة الإنسان ومعدته من بدائل سوى زاد البحر.. مالم يقع هو الآخر فريسةَ (جنُونٍ).. من نوع آخر، وما هو عن ذلك ببعيد بفضل تلويثِ الإنسان للبحار.. عاليها ودانيها؟ فأين يفر الإنسان من نفسه!؟
* * *
هنا، قرّرتُ أن أغيّر بوصلةَ الحديث فقلت: هل أحدّثك عن (جنون الإنسان)؟
قال: ذلك هو الوباء الأَقْسَى والأمرّ!
قلت: يستكثرون على الدجاج أو البقر أو حتَّى الغنم.. لحظةً (يَخْتلُّ) فيها التوازن (البيولوجي) عند أحدها.. فيتصرّف تصرّفَ من به (جنّ)، ويتمرد على (صاحبه) الإنسان حين يُخفقُ في توفير طعامه أو شرابه أو مأواه، أو يحمّله من الأثقال ما لا يطيق.. حتى يناله المسُّ بسبب ذلك مِمَّا تسمُّونُه (جنوناً).. ويفسّرُه أهل الفهم والعدل من البشر بأنه ضرب من (الاحتجاج الصامت) على ظلم البشر و(جنونهم) في التعامل مع هذه الكائنات غير الناطقة، ثم يصيبهم بعد ذلك ما يصيبهم جراء ذلك؟!
* * *
قال: صدقت،
قلت: هل أزيدك من القوافي أبياتاً؟!
لماذا لانحتج على (الإنسان) الذي تفتّقَ ذهنُه وعلمُه باختراع (أسلحة تفتك وتدمر) فلا تُبقِي ولا تَذَر، باسم (الدفاع عن النفس وما تملك).. أليس هذا هو الجنون عينه؟!
قال: ذاك هو البلاء الأعظم!
قلت: كيف نشقى بـ(جنون) عارض لناقةٍ أو بقرةٍ، أو دجاجةٍ فنقيم الدنيا ولا نقعدها فزعاً، ونستنفر الجامعات ومراكزِ البحوث في كل مكان.. بحثاً عن دواء (يئدُ) (جنون) هذه الكائنات البريئة التي سخّرها الرحمن لخدمتنا، ثم نُسِيءُ التعامل معها زاداً أو مأوىً أو نصليها نيراناً من الشقاء وسط سعير الصيف أو زمهرير الشتاء!
أليس ذاك هو (جنون) الإنسان، غرُوراً وكبرياءً الذي غدا سبباً لنشوء ما يسميه هو (جنوناً) لكائنات بريئة لا تعرف سبيلاً لدرْءِ القهر دفاعاً عن النفس!
* * *
قال: ما الحل إذن؟!
قلت: إبْدأوا بالإنسان أولاً! قوّموا حاله بالإصلاح كيْلاَ يصيبَه مسُّ من القهر فيسرقَ أو يقتلَ أو يعبثَ بزينة الحياة الدنيا، تعبيراً عن قهره، ثم تحمّلُ بعضُ الكائنات الحية (المستضعفة) وزْرَ ذلك!!.