نجيب الخنيزي
عن مفهوم التسامح كقيمة دينية نستحضر معركة صفين حين بلغ الإمام علي أن جماعة من أصحابه يسبون أهل الشام - جيش معاوية - طلب منهم اجتناب السباب وخاطبهم قائلاً: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر» ونستحضر قول الإمام علي بن أبي طالب في وصيته لمالك الأشتر: «الناس نوعان أخ لك في الدين وشبيه لك في الخلق».
ما ذكرته هو جزء يسير من قيم التسامح واللين مما جاء في القرآن والسيرة النبوية وحياة بعض الشخصيات الإسلامية البارزة، لكن مع الأسف فإن في مقدمة من يخرقونها هم المتشددون والمتنطعون والمتسترون بعباءة الدين. حيث يوظفون الدين (المقدس) خدمة لمصالحهم وتوجهاتهم الفئوية، وممارساتهم وجرائمهم الإرهابية البشعة.
التسامح هو خصيصة أغلبية الأديان السماوية والعقائد الأرضية القديمة الأخرى. ونشير هنا إلى المسيحية حيث تتضمن أناجيلها المختلفة والمتفرقة ذات المعنى المتسامح.
غير أن تلك التعاليم والتوجيهات الدينية والأخلاقية لم تمنع اندلاع الحروب الطاحنة التي شهدتها الديانات السماوية على وجه الخصوص فيما بينها وفي داخلها في الآن معًا، التي ذهب ضحيتها الملايين من البشر، من منطلق إدعاء كل فرقة دينية أو مذهبية بأنها الناجية والأخرى كافرة ومبتدعة وفي ضلال مبين، متجاهلين ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إن اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة الحج). لقد شملت تلك الآية المسلمين واليهود والنصارى، بل من غير أصحاب الديانات السماوية مثل المجوس والمشركين موضحة (الآية) بأنه الله (لا الناس أو فريق وطائفة منهم) وليس غيره من البشر هو الشاهد على البشر، وهو من سيفصل بينهم ويحاسبهم.
الاختلاف هنا يعني تقبل المغايرة، وبالتالي هذا المبدأ لا يقرر الكراهية للمخالف أو النفور منه أو تكفيره واحتقاره. كل ما يقرره القرآن، انطلاقًا من هذا الفهم هو الدعوة إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن. وهذا هو منتهى التسامح في الدين.
صحيح أن مصطلح أو مفردة التسامح تحديدًا لم تتطرق إليها الديانات السماوية، لكن هناك أكثر من 200 آية في القرآن الكريم تطرقت بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المدلول نفسه، غير أن فكرة التسامح المنغرسة بقوة في الأديان، لم تمنع من اندلاع الحروب الدينية والطائفية الدموية، إبان الحروب الصليبية بين الإسلام والمسيحية، أو بين أتباع الديانات والمذاهب الإسلامية المختلفة.
هنا علينا الإقرار بأن فكرة التسامح أعيد طرحها وبقوة على إثر الحروب الدينية الدامية التي شهدها الغرب بدءًا من المجازر بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر، ومن بينها على سبيل المثال مجزرة باريس والمدن المجاورة، التي قدر عدد ضحاياها بنحو مائة ألف قتيل، ناهيك عن الدور المرعب لمحاكم التفتيش وما رافقها من ألوان البطش والتعذيب الذي وصل إلى حرق وقتل المخالفين من أصحاب الديانات (اليهود والمسلمين) والمذاهب الأخرى، وطالت العلماء والمفكرين المنشقين على التعاليم المتزمتة والمنغلقة للكنيسة البابوية.
التسامح هنا هو نتاج التصدي الاجتماعي والفكري والسياسي للعنف واللا تسامح وسلب الحق في الاختلاف بحجة المغايرة في المذهب أو العقيدة. أما الحدث الثاني فكان فيه التسامح أكثر شمولية، حيث صار مرادفًا للحق في الاختلاف عقديًا وفكريًا، القائم على فكرة الحقوق الطبيعية لكل البشر، وأهمها الحق في الحياة وحرية التفكير.