إبراهيم عبدالله العمار
وضع نيل بوستمان كتابه القوي «ترفيه أنفسنا حتى الموت» في نقدٍ لاذع لتقنية التلفاز نفسها، وليس فقط الترفيه السطحي المسبب للإدمان في التلفاز الأمريكي والذي امتد إلينا أيضاً، وفيه يقول نيل إن معدل طول اللقطة الواحدة في الكثير من البرامج التلفازية 3 ثوانٍ ونصف، لذلك فالعين لا ترتاح أبداً، تنتقل من لقطة للقطة بحركة محمومة، والتلفاز يوفر الكثير من المحتوى الجديد والذي لا يتطلب التفكير لكي يستوعبه، وغالباً هدفه الإشباع المشاعري.
بل حتى الدعايات رائعة الصناعة، وتُطرب الأذن والعين، ولا شك أن أفضل تصوير في العالم هو تصوير دعايات التلفاز، والذي يتجه غالباً نحو الترفيه، والمشكلة ليست أن التلفاز يقدم لنا محتوىً ترفيهياً، بل إن كل المحتوى يُقدَّم بشكلٍ ترفيهي، وهي مشكلة مختلفة، فقد صار الترفيه هو الأيديولوجية الأم في التلفاز، هو المعبد الذي يُنحَر عنده الذكاء والتفكير الهادئ المنطقي بل وحتى التعاطف!.
التعاطف؟ كيف ذلك؟ انظر لنشرات الأخبار، كيف تراها؟ رغم كثافة القتل والتدمير والتعذيب الذي تراه فيها إلا أنها خالية من جوٍّ يحث على التعاطف، فالمقدمون يحثونك على المتابعة المستمرة (لماذا؟ لقد رأينا مجزرة مريعة قبل قليل!)، لكننا نقبل دعوتهم هذه لأن «الأخبار» لا يجب أن تُؤخذ على محمل الجد، بل كل هذا ترفيه وإن لم يُطلق عليه ذلك، وكل عناصر برنامج الأخبار تصرخ بذلك، فالمقدمون مظاهرهم حسنة، وكلامهم فيما بينهم وُدّي، وموسيقى البرنامج مطربة، والمقاطع الإخبارية حية وجاذبة، ناهيك عن الدعايات الفاتنة، كل هذه أشياء تقترح على ضميرنا أن لا يجلس وينوح على ما رآه من بشاعة، بل إن الأخبار ترفيه، وليست للتعليم ولا للتأمل ولا للحزن.
من العبارات الشهيرة أن «الوسط هو الرسالة»، أي أن الوسط الإعلامي يفرض الرسالة التي ستُوَجَّه عبره، فالكتاب مثلاً وسط نصي يفرض أن تكون البيئة الكتابية مليئة بالتفكير والتفكُّر والتعلم، بينما التلفاز وسطٌ مرئي يفرض أن يكون محتواه سطحياً ترفيهياً، ويمكن أن يكون التلفاز بيئة تعليمية لكن البرامج التعليمية قليلة وحتى هي صارت تخضع لقانونه الإجباري «الترفيه أولاً» الذي لا يكاد يفلت منه شيء، ويجب أن تكون ممتعة ومقدمة بشكلٍ جميل واحترافي وإلا سئمتها النفس فوراً.