د. حمزة السالم
نصوص الحديث جاءت مفصلة لربا البيوع وسكتت عن تفصيل ربا القرض. فالقرآن ذكر ربا القرض في مواقع عديدة بلا تفصيل، ولم تفصل السنة فيه. فباب ربا القرض ليس فيه تفصيل واستثناء، فربا القرض هو حرام كله في قرض حاضر أو في قرض آجل، وحرام كله في جميع الأموال، سواء أكان بسلعة أو بخدمة أو منفعة.
فقد كان القرض لا يخفى على أحد، فالتفصيل فيه يعد عبثًا. فهو محسوس معروف بالفطرة الإنسانية كما أن البيع محسوس معروف بالفطرة الإنسانية. فدلالة الحال هي أمور فُطر الإنسان على إدراكها وتمييزها منذ طفولته. فالطفل يميز عندما يضربه والده مازحًا ويضربه غاضبًا وإن لم تختلف الضربة. وهل فصل عليه السلام في البيع ودلالته التي يستدل بها على أنها بيع، فنميز أن البيع ليس تبرعًا وإحسانًا؟
وجاء الصحابة والفقهاء الأئمة الأوائل، كذلك، فلم يبينوا المعنى الشرعي للربا المطلق الذي جاء في القرآن، ولم يحددوا سببًا ولا شرطًا أو مانعًا. وليس هذا إغفالاً منهم عن تحديد أصل مسألة الربا قبل الانتقال للفروع المتقسمة منها، إنما كان هذا لأن الصحابة والأئمة الفقهاء الأوائل كانوا يدركون حقيقة التبادلات ونتائجها بالفطرة، ويفهمون معنى القرض فلم يُفصلوا فيما هو معلوم بالضرورة. وكذلك هو حال الصحابة وأئمة الفقهاء من القرن الأول، لم يتعرضوا للقرض ولا لربا القرض. لأنه معروف بالفطرة كالشمس، والمعروف لا يُعرف. فخلف من بعدهم خلف، تغيرت عليهم بعض أعراف الحياة التي كانت زمن الرسول، وحفظوا أقوال الفقهاء، فتعلقوا بظاهر الأقوال لمشايخهم، في شروحاتهم لربا غير ربا القرض، وهو الذي جاء به الوحي في المرحلة الرابعة وهو ربا البيوع.
ولذا فالربا المحرم في صدر الإسلام الذي حُرم على اليهود، هو ربا القرض، وأمره واضح معلوم بالفطرة، تستقبحه النفوس وترى فيه الظلم والاستغلال، وهذا لا يجدر بعاقل أن يشرحه ويبينه للناس، وهو أمر معروف حتى بالفطرة، فكيف برسول الله وقد جمع الله له الحكمة وجوامع القول.
ولا يجدر أن ينسب ربا القرض وما هو في معناه كالعارية والوديعة، لكبار الصحابة ولأل بيت النبي، حتى آخر حياته عليه السلام. فالمرابي في القروض خسيس لئيم لا يليق نسبة عمله لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام. بل أعظم من ذلك نسبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام وآله رضي الله عنهم. فقد جاء في مسلم: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله». فنسب عليه السلام ربا العباس له ولآل بيته.
كيف يكون هذا الربا هو نفسه الذي ينزل فيه، الذم والتحريم ويسبب سخط الله على يهود ويظل ربا منسوبًا له عليه الصلاة والسلام إلى حجة الوداع!!! بنص الحديث «وأول ربا أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب».
فربا العباس، لم يكن ربا القرض. ولكن كانت التمويلات هي عماد تجارته رضي الله عنه. أي أنه كان يرابي في تبادلات مالية تجارية ما كانت العرب والعجم يرونها إلا من باب البيع والشراء، ولهذا ما حاجوا الرسول في الربا فقالوا: إنما البيع مثل الربا إلا عندما جاء عليه الصلاة والسلام بتحريم ربا معاملات تجارية. ولهذا لم يتحرج رواة الحديث من لفظه عليه الصلاة والسلام بنسبة ربا العباس له. فحينها استنكرت عقول قريش وغيرها، تحريم شيئًا ألفوه من التجارة فلم يكن ذلك الربا معروفًا لديهم.
فربا القرض المذموم لا يخفى على الفطرة الإنسانية، ولهذا لم يفصل عليه الصلاة والسلام في ربا القرض ونحوه، واكتفى بما جاء في القرآن، في صدر الرسالة، من الوعيد فيه. وثم اتبعه الصحابة وأئمة القرون الأولى، في عدم التفصيل. فصار سكوت الأولين عن ربا القرض لظهور أمره، وانشغالهم بشروحات ربا البيع، هو سبب خلط عند من بعدهم، فنزلوا كل ربا على ربا البيع. فهذا ما حفظوا عن شيوخهم من مناظرات واستدلالات، فما كانت لشيوخهم مناظرات في ربا القرض فالقرض لم يكن بحاجة لنظر عندهم. وثم اختلف الاتباع فيما حفظوا ثم تنازعوا. فأصبح عسيرًا عليهم فهم أول ربا جاء في القرآن، وهو يخاطب الأميين. ربا قد أظهره الله فطرة، لكنهم تاهوا في النزاعات والانتصارات للمشايخ، فضاع علمٌ، كان فطريًا من قبل.