ليس غريبًا أن تقرأَ في شِعْرِنا القديم قصائدَ سيقَت لغرض الرثاء، ولسوف تجد هذه المرثيات مشحونةً بالألم النفسي الذي يُصوِّر المأساة التي يعيشها الشاعر، ومثال ذلك مرثية أبي ذؤيب التي يرثي فيها أبناءه، إذ يقول مصطفى ناصف: إنَّ مفردة الدهر في القصيدة تأتي بمعيِّة ألفاظ تخدمها كالريب، والمنون، والجزع وغيرها حتى تحوَّلت هذه الألفاظ مِن قبيل الثروةِ اللُّغوية التي تخدم مفردة الدهر عند قول الشاعر:
أمِنَ المنون وريبِها تتوجَّعُ
والدهْرُ ليس بمُعْتبٍ مَن يجزعُ...
إنَّ المفردة لها دلالةٌ في السياق النصي؛ لأنها تكون كلمةً مفتاح تجعلنا نكشفُ أسرار القصيدة المضمونية والشكلية، لذا فإنَّ النقدين القديم والحديث لم يتجاهل اختيار الشعراء لألفاظهم وهذا ما وقف عنده عبد القاهر الجرجاني الذي جعل اختيار اللفْظة مقرونًا بالمسار النظمي للنص الشعري، ومِن هذا المدخل نستطيع أن نفهم طبيعة العلاقة الحاصلة بين اختيار المفردة والغرض الشعري كالرثاء على سبيل المثال.
إنَّ الغريب حقًا هو أن يُحوِّلَ أبو العلاء المعري مرثيِّته في فقيهٍ حنفي مِن بكائية لا تخلو من تبجيل للمرثي إلى نصٍ فلسفي يشتمل على تعليمات وأفكار عقلانية تتساوق مع ذهنية المعري التي بُنيَت بناءً فلسفياً رصيناً، ونحن عندما ذكرنا المفردة فسوف نلاحظ العديد منَ المصطلحات المنطقية التي تحتويها مرثية المعري الذي يقول:
غير مُجدٍ في مِلَّتي واعتقادي
نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادي
إنَّ الشاعر يُبيِّن في مستهل القصيدة كنه تفكيره، إذ إنَّ ملَّته ومُعتقَده لا يقبلُ البكاء، ولا يقفُ الأمر عند هذا فحسب، بل يتساوى عنده الضحك والبكاء والغناء والنواح، وهذا يوضِّح مدى النظرة السلبية للحياة بكونها رتيبة نهايتها معروفة، وهذا يلاحظه القارئ في أسلوب مناقشة المعري لتناقضات الحياة في ثنايا قصيدته، وهذا بالتأكيد يختلف عن شكلِ الرثاء الذي عرفناه عند أبي ذؤيب ومالك بن الريب وجرير وغيرهم منَ الشعراء.
إنَّ التناقضات التي جاءت في مرثية المعري لم تكن لولا استعانة الشاعر بأساليب بلاغية تقنية، ولعلَّ من أبرزِها المقابلة والطباق؛ ليكونَ القارئ أمامَ نصٍ يزدحمُ بالأضداد، وهذه المفردة ذكرها الشاعر في بيت من أبيات القصيدة عندما ساق تعجُّب المخلوق من تزاحم الأضداد تحت التراب؛ ليقابل بين الأضداد بوصفها المادي المحسوس، وبوصفها اللُغوي الذي تحتويه تلك الطباقات والمقابلات.
إنَّ المتأمِّل في عبارات قصيدة المعري سيجد مفردات منطقية وفلسفية تدلُّ على تحوُّل الرثاء من بكاء إلى نصٍ فلسفي ومن أهم هذه المفردات التي ذُكرِت في مُفتتَح القصيدة: الملة، والاعتقاد، والشبيه، والقياس، وأخيرًا لا يتَّسع المقام للتعمُّق أكثر في هذه المرثية المُمنطقة ولكن قد تكفي هذه الإشارة في هذا المقال.
** **
- راشد القثامي