تركي بن رشود الشثري
يضع كل من ثيودوروشيك ولويس فون منهجاً لفحص الادعاءات يقوم على خطوات أربع:
- تحديد الادعاء.
- دراسة الأدلة المؤيدة للادعاء.
- التفكير في الفرضيات البديلة.
- تقييم معقولية كل فرضية.
ولكن ليس معنى ذلك الانغلاق والتحقيق مع كل مستجد بنفس رافضة، بل كما قال أرسطو (إن الدليل على استنارة العقل هو قدرته على الترحيب بفكرة ما دون تقبلها)، ويعني بعدم تقبلها إن لم تكن مبرهنة وحجتها مقاربة للقطع.
يقول هنري لويس برجسون (لا ترى العين سوى ما يستعد العقل لإدراكه)، ومعنى ذلك أن المبتدأ هو طريقة عمل العقل, ويعلق توماس على ذلك بقوله (فتوقعاتنا تجعلنا نرى فعلياً أشياء لم تحدث مطلقاً)، وبالفعل فكثير من الناس يغدو وهو محمل بأفكار وأحكام وتوقعات ومشاعر وارتياب وحلول فيدلف للمجالس والاجتماعات فيسمع ويرى ويحدثك عن ما سمع ورأى وقد حضرت معه المجلس نفسه ولكنك لم تسمع ولم ترَ؟!
يتجاوز بعضهم ذلك فيعتقد أنه يمتلك من الرؤية والحدس والعمق والقراءة الجيدة للأحداث، بل ومن الموضوعية والحياد والشفافية والصدق والنصح والمرونة ما لا يمتلكه جميع المحيطين به، وهذا ناتج من خلل في التصور وفقه النفس، وهي بالفعل أزمة أخلاق لا أقل ولا أكثر، فنحن بحاجة ماسة للتواضع الحقيقي لا المصطنع والذي ندل به على الناس ونلحقه بباقي المصفوفة أعلاه مما نعده مزايا ومناقب لذواتنا المتفخمة؟!
وكما بالغ الأقدمون في السبيبة إثباتاً ونافيًا فقد بالغ المتأخرون في العلائقية، فهم نهمون في الجري وراء العلاقات التي تربط الأشياء بعضها ببعض سواء كان ذلك بواقع أم بخيال، وينتج عن ذلك تفسيرات وتحليلات وأحكام جازمة تثير الشفقة، يذكر توماس كيدا أن (ذلك يحدث عندما نريد رؤية العلاقة أو نتوقعها)، ويضيف (لأننا نريد لهذه العلاقة أن توجد... أي أننا عادة ما نهتم بالحالات التي يحدث فيها كلا الشيئين، فإذا تكرر حدوثهما مرات عدة نسرع إلى استنتاج أن هناك علاقة بينهما)، ويضرب مثالاً بأننا نعلم بأن تناول السكريات يزيد من نشاط الأطفال ولكن كثيراً من الناس يربط بين تناول الحلوى وبين النشاط الزائد بشكل حتمي ساري المفعول بما لا يقبل المناقشة وقد أحب بعض الباحثين التأكد من هذه الفرضية فجربوا على مجموعة من الأطفال فتبخرت الفرضية واتضح أنه لا علاقة بين هذا وذاك بالشكل المتداول بين الناس, وليكن المثال أو التجربة خاطئين لا يهم، فمن أخطاء التفكير مناقشة الأمثلة وإطالة الوقوف لديها ولكن الذي نجزم به أننا جميعاً نربط بين أشياء لا رابط بينها.
تحدث توماس عن التنبؤ ورغبة الناس العارمة في الاطلاع على ما يكون في الغد، وأضيف بأن الناس في هذا العصر أصبح لديهم هواية السبق الخبري والتنبئي، والجميع يذكرنا بأنه أخبرنا قبل أن تقع هذه الواقعة أنها ستقع فيما اسميه «هوس التنبؤ» الإغراق في التنبؤ يخبل العقل ويجعله في حالة من التخيل غير المبدع بل هو ضرب من تخلجات كهان الجاهلية بفعل البحث المحموم عن أدلة تؤيد ما تنبأ به وصبغ كل حدث وكل موقف وكل متغير بصبغة ما تنبأ به مكرراً في كل مرة ألم أقل لكم من قبل!
وأعطي لذلك مثالاً: أحدهم تنبأ بما يعرف بالربيع العربي ووقع الربيع العربي واستمر الرجل يتنبأ بعد ذلك ويتخرص بأشياء لم تقع، ولو تابعت ما يقول لعلمت خلوه من العلم الشرعي ومعرفة الواقع ودرس علم المستقبلات، ولكنها صدفت معه مرة فأرادها أن تصدف كل مرة، وهذا مما يشوش العقل ويعطله عن عمله الصحيح. وآخر ما توصل إليه هذا الرجل أنه يجب على من أراد الإسلام الصحيح أن يذهب إلى غابة ويكوِّن مجتمعاً لا يتعامل مع العالم الخارجي مطلقاً في أي جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والتكنولوجية والسياسية والثقافية. ونحن نعرف أن المنجم يصدق مرة ويتبعها مئة كذبة، والعجيب أن الناس تنتبه لما صدق فيه ولا تنتبه لكذبه العريض لماذا نتنبأ؟
تنبؤات عن الطقس وعن الأسهم وعن نضوب النفط بعد سنيات وعن نشوب حروب وعن سقوط أمريكا وغرق أوروبا!
حب الفضول دافع وأيضاً حب التميز بالسبق التنبئي دافع وأيضاً لأننا نريد أن تحدث هذه الأشياء فهي رغبوية كامنة وأيضاً الرغبة في السيطرة، فإعطاء تفسير للمستقبل أو رسم لوحة مقاربة لما ستكون عليه الحال يجعلنا بحالة أفضل لأن العصر معقد جداً، واستثني هنا أعمال مراكز الأبحاث الإستراتيجية ودراسات علم المستقبلات لأن العاملين فيها من أهل الاختصاص ثم هم يقدمون بين يدي فرضياتهم معطيات وإحصاءات وأرقام وتجارب سابقة، ثم هم لا يجزمون بل ويعطون أكثر من فرضية ومع كل فرضية حزمة من الحلول وتلمح الفرص، فهي ليست تنبؤات عدمية اكتئابية، ولا يعني هذا بحال أن توقعات هذه المراكز حتمية بل هي كثيرة الخطأ, ولكن المراد إمكانية مناقشة من يقدم لك إحصاء ورقماً وعدداً من الفرضيات ويحاول أن يفهم مع عدم الجزم بشيء فقد حللت مجلة فيوتشرز كما يذكر توماس 1556 توقعاً تكنولوجياً فوجدت أن الخبراء لم يكونوا أفضل من غيرهم في دقة التنبؤات وقد حلل الأستاذ ستيفن سكنارز من كلية باروخ التوقعات المنشورة فيما بين عامي 1959-1989م في مصادر مثل نيويورك تايمز وول ستريت جورنال وبيزنس ويك فوجد أنها كانت خاطئة بنسبة 80%.
وهذا مفهوم، فالأحداث تكتنفها متغيرات تتفاعل فيما بينها، وقد نقلنا قبل قليل ما قاله توماس عن محاولاتنا في إيجاد علاقة بين شيئين لا علاقة بينهما ونظن أيضاً أن وجود علاقة بين شيئين يعني أن الأول سبب للثاني وهذا غير دقيق فقد يكون هناك شيء ثالث يتفاعل مع هذين الشيئين فتأتي النتيجة, إذن وفي هذا العصر الذي اختلط فيه المادي بالمعنوي والبيولوجي بالاجتماعي والتكنولوجي بالثقافي والسياسي صار لزماً علينا أن نعي تشابك المؤثرات وتفاعل المتغيرات كما يؤكد توماس على ذلك.
يوصون دائماً بـ «التأمل» واقتطاع لحظات تطول أو تقصر من أجل هذه الممارسة القديمة والتي توارثتها الحضارات، فكل معالم الحضارات تدك لتنهض على أنقاضها حضارة أخرى بثقافتها وفلسفتها ونظرتها للكون والحياة والإنسان ولكنهم يجمعون على استبقاء عادة التأمل، يكون ذلك في صورة شعائرية وفي أحيان أخرى فنية أو رياضية، المهم أن الإنسان ومنذ سوالف الدهر لا ينفك يوصي نفسه وغيره بأن يأخذ حظه من التأمل لماذا نتأمل؟
يبدو لي أن هذه الممارسة تقوم بعملية تنظيف للعقل وإزالة الغشاوة والأفكار السلبية عنه، ولك أن تتخيل جدولاً رقراقاً يتخلل الصخور والأعشاب ولا يكدره شيء، فهل تستطيع أن تنساب في الحياة ومع الناس كذلك فتنسى الأحداث المؤلمة وتخفف من التركيز على الناس فلا تفسر كل لحظة وكل لفظة وكل إشارة، وبالنسبة لأهل اللؤم والذين يتقصدون إخراجك عن طورك كذلك لا تستجب لهم كما أوصى القرآن {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، لماذا لأن اللئيم مسؤول عن لؤمه وليس أنت المسؤول، فلماذا تدفع فاتورة لؤمه أنت فينال من أعصابك وفكرك، دعه وأمض في سبيلك. ومن مقتضيات تنظيف العقل أن لا تنشغل بخصائص الناس وطبائعهم إلا في حدود التخصص أو المهمة الإصلاحية التربوية باتزان لأن لكل إنسان جانب من جوانب حياته لا يريد من أحد أن يطلع عليه، إنها منطقته المحرمة والتي يحوطها بالحواجز والعوازل عن عيون الآخرين فلا تتلصص على هذه المنطقة ولا تحاول أن تجوس خلالها بقدميك فلا تخبره من هو ولا بما يفكر فيه ولا غير ذلك, بل وإن كان حالماً فلا توقظه من حلمه الجميل، نعم قد تقودك الرغبة إلى محاولة اقتحام الآخرين كما يذكر لونوارا ولكن قاوم تلك الرغبة وشكك في مسلماتك حيالهم وتأكد بأنهم لا يريدون منك سوى شيء واحد أن تقبلهم كما هم بجمالهم وقبحهم، بسموهم وسقوطهم، إنهم بشر!
يذكر الدكتور رينلغ في قصة إبسن «البطة المتوحشة» أنه يعنى بالحفاظ على أكذوبة حياته ويعلق لونوارا بعد إيراده القصة بقوله: إذا سلبت شخصاً عادياً أكذوبة حياته فإنما تسلبه سعادته أيضاً.
حسناً وماذا لو كنت ممن أصيب بداء أو داءين من أخطاء التفكير وجرك ذلك لرسم تصورات أو إصدار أحكام أو اتخاذ قرارات كلها خاطئة، فهل معنى ذلك أنك فاشل على مستوى التفكير والتخطيط والتنظيم؟ يبدو هذا غير دقيق فأنت لست فاشلاً ولكنك في طور التجربة وطور التعلم، فتوماس يختم كتابه بقوله (ولكن الأخطاء الستة وعلى الرغم من أنني شددت عليها فلا عليك إن اقترفت أيًا منها فكل من أعرفهم يقعون فيها، وذلك لأن أغلب هذه الأخطاء ناتجة عن طبيعتنا أو رغبتنا في تبسيط تفكيرنا وحاجتنا إلى ذلك، ولحسن الحظ فإن إستراتيجيات التبسيط تحقق نجاحاً في حالات عدة)، وقد صدق فكثرة المعلومات التي نكتسبها وكثرة التفاصيل التي نسيخ فيها قد تكون عائقاً أمام الانطلاق والشجاعة الأدبية لخوض غمار الحياة، بل وتعد مصدراً من مصادر القلق وتعقيد العلاقات والأفكار والمعاملات، ولذلك فنحن بحاجة ماسة لتنقية عقولنا وإعادة ضبطها مرة أخرى.