د. إبراهيم بن محمد الشتوي
(1)
كنت قد بدأت أقرأ المقالات التي كانت تنشر تباعا في «المجلة العربية» تحت عنوان «أي بني»، وتحتل مساحة صفحتين كاملتين في المجلة العربية، إلا أنني لم أتابع القراءة فيها، لطولها أولا، ولأني علمت أن الجزء الأول صدر منها، فمنيت النفس أني سأقرؤها في الكتاب وليتني لم أفعل، فقد ظل هذا الوعد عقدة في ضميري يؤنبني في كل مرة أرى فيها الكتاب، ولا أبدأ بقراءته.
وقد شجعني هذه المرة على شرائه وقراءته، ما رأيته من كتابة الدكتور معجب الزهراني عنه فيما كتبه عن «السيرة الذاتية»، وقد كنت أظنه كذلك، وأنه قريب إلى ما كتبه غازي القصيبي في «حياة في الإدارة»، وأن ما توهمته سلفا لم يكن سوى نظرة المتعجل، وحين حصلت على نسختي من الكتاب وجدت أن ظني السالف لم يكن في محله كما كان ما سبقه من توهم الذي كان صحيحا إلى حد ما.
وذلك أنني حين حصلت على نسختي أخيرا وبدأت أنظر فيه، وأقلب محتوياته، لم أجد فيه «سيرة ذاتية» بالمعنى التقليدي المعروف للسيرة الذاتية التي تتحدث عن حياة صاحبها حديثا خاصا، وهنا لفت انتباهي وقوف «الزهراني» عندها عند حديثه عن السيرة الذاتية في الأدب السعودي، والذي يبدو لي أنه –الزهراني- نظر إليها بوصفها سيرة ذاتية جمعية –إن صح التعبير- بمعنى أنها تقص سيرة المجتمع الذي يعيش فيه الكاتب، وارتحل من مرحلة الفقر، والشدة، وشظف العيش، والجهل، والأمية، إلى مرحلة الازدهار، والنماء، والثراء، والعلم والتطور.
هذا التحول لم يكن باليسير على من شهد الحالة الأولى، ثم عاش في الثانية، وساهم في صنعها، والوصول إليها، خاصة إذا كان يدرك أن قدرا لا بأٍس به من أسباب هذا التحول لم يكن للإنسان دور فيه، وإنما منت به الطبيعة على ساكني هذه الأرض، وجاء استثماره بحنكة ومهارة من يقود الدفة، ويستطيع أن يستفيد من قدرات الآخرين. بمعنى أنه نتاج ظروف معينة قد –لا سمح الله- لا تلبث أن تزول. الأمر الذي يجعل التأمل فيها، والنظر، وإبلاغ الأجيال اللاحقة هذا السر للمحافظة عليه أمرا لازما.
وقد بدا قص سيرة المجتمع مع بيان أحواله الحاضرة، وموازنته بأحواله القديمة، ولأن الحاضرة واحدة، فإن القديمة تأتي على أكثر من مستوى، مستوى القديم الذي عاشه المؤلف، وهو جيل الآباء المنظور، ومستوى القديم جدا الذي عاشه القدماء من العرب وتفصلنا عنه القرون.
وإذا كان مستوى القديم القريب الذي يتصل بحياتنا الحاضرة له تأثير كبير خاصة على جيل الآباء، وأصبح بعد الحضارة الحديثة جيلا دالا على الفقر والتخلف، والجهل، وهو مختلف عن حياتنا الحاضرة، فإن صلته بالقديم البعيد يعطيه نوعا من التبرير والوجود، والأصالة، ويجعل تلك الحياة مقبولة.
وهو لا يقص حكاية التحول بمعنى يورد أحداث التحول، أو الإجراءات التي اتخذت للقيام بهذا التحول، وإنما يورد حالة مجتمع قديم، ومفرداته، وطبيعة عيشه، في موازاة مجتمع آخر معاصر، وسلوكيات جيل في موازاة جيل آخر، مستخدما عبارات مثل: «قد لا تعرفون»، «هذا ما كان عليه أبوك» مما تدل على حضور القص، هذه الموازنة أو كما سماها المؤلف «المقارنة» هي التي تكشف ملامح الحكاية، فالحكاية الواحدة (حكاية المجتمع) أو (حكاية التحول) تتوزع في عدد من الحكايات؛ كل واحدة منها تتناول جانبا معين من المجتمع القديم في موازاة المجتمع الحديث وتقارن بين مفردات الجوانب التي تتناولها الحكاية، هنا نجدنا أمام حكاية واحدة ذات قطع أجزاء صغيرة.
في هذه الأثناء نستطيع أن نبحث عن معالم «الخويطر» ليس الذاتي، وإنما «الخويطر» الموضوعي بوصفه واحدا من أبناء المجتمع الذي يقص حياتهم، فينطبق عليه ما ينطبق عليه، سواء كان شابا أو رجلا خارج إطار «البنوة» التي يشملها العنوان، وذلك أنه إذا كان في المجتمع المعاصر (المتطور) رجلا مكتمل النمو و، بالتكوين، فحتما قد قضى طفولته وشطرا من شبابه في الزمن الماضي –كما يعبر- وهنا تصبح الموازنة بين شباب القديم وشباب الحاضر، الشباب القديم يظهره المخاطب بناء على أن الحالة التي توازيه في الزمن الماضي هي شباب المتحدث، فهو حين يقارن شباب الحديث بالقديم فهو يقارنه بنفسه في تلك الحقبة، في حين أن جيل «الأبوة» التي تظهر مما يقابل «البنوة»، وهي الموقع الذي اختار «الخويطر» أن يضع نفسه فيه تظهر عن طريق ضمير المتكلم (الياء)، والإطار العام الذي نظر إلى أبناء الجيال الحاضر من خلاله، وهو ما يكسب النص تعددا في الأصوات إضافة إلى التعدد بالضمائر، وهي جوانب سأقف عندها وعند غيرها في المقالات القادمة إن شاء الله.