سهام القحطاني
«مواقف السعودية من المسألة الفلسطينية مواقف خالدة».
تتميز فلسطين بأنها أرض مقدسة لجميع الأديان السماوية؛ فهي أرض الأنبياء والرسل من بني إسرائيل؛ فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وداود وسليمان عليهم السلام.
وهي مولد المسيح عليه السلام.
وبالنسبة للعرب والمسلمين فهي تمثل مكانة دينية عظيمة؛ فهي مسرى الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ من خلالها تمثلت معجزة الإسراء والمعراج.
إنها - كما وصفها القرآن الكريم - الأرض المقدسة والمباركة، وهي أرض «المحشر والمنشر».
والمسجد الأقصى في القدس هو أولى القبلتين للمسلمين، وثالث مسجد يجوز للمسلمين أن يشدّوا الرحال إليه، بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة، والصلاة فيه «500» صلاة.
إذن القدس العاصمة الدينية الثالثة في الوجدان الإسلامي بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة.
كما ترتبط فلسطين في الوعي العربي والإسلامي بذات البُعد اللاهوتي في الوعي اليهودي والإسرائيلي؛ فهي أرض المعركة الكبرى بين المسلمين واليهود، المعركة التي تمهد لنزول عيسى عليه السلام؛ فقد وردت أحاديث نبوية في هذه المسألة، منها «إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام.. والساعة يومئذ أقرب إلى الناس».
ومسألة الملحمة الكبرى آخر الزمان التي سوف تدور في فلسطين لا يستقر اعتقادها في الوجدان الديني العربي فقط؛ بل نجد مضمونها مستقرًّا أيضًا في الوعيين اليهودي والمسيحي من خلال «معركة هرمجدون».
تتكئ حكاية معركة هرمجدون على محاور درامية عدة، منها:
1- أنها المعركة الفاصلة بين الخير والشر؛ لذا لا تحدث إلا بعد أن تفسد البشرية وتتجرد من إيمانها وتعم الأوبئة.
2- مُمِهدة لنزول المسيح في العقيدة المسيحية ليحكم العالم، وظهور الحاكم المنتخب من بني إسرائيل لحكم العالم كما في العقيدة اليهودية.
تقول مادلين أولبرايت: «ربما يتعين على الواثقين بأن المعركة الفاصلة (هرمجدون) هي ما يقدره الله للشرق الأوسط أن يتفكروا في مقطع وارد في سفر أشعيا، يتنبأ بوقت لا يعبد فيه الإسرائيليون الله وحدهم فحسب، في ذلك اليوم (تكون إسرائيل ثالثا لمصر وأشور، هذه بركة في وسط الأرض، ويمنح الرب القدير بركته قائلاً [مبارك شعبي مصر وصنيعة يدي أشور وبنو إسرائيل الذين اخترتهم]).
وحتى ذلك اليوم ستبقى المعضلة الملازمة لوعد بلفور، وستواصل شعوب المنطقة العيش في خوف، وسيفاقم التوتر الحاضر بين المسلمين واليهود والمسيحيين مواجهة تمتد إلى أبعد من الشرق الأوسط، وتهدد حقًّا بزعزعة العالم».
ولعلنا نفهم من قول السيدة أولبرايت أن الصراع العربي الإسرائيلي مفتوح الأفق حتى موعد المعركة الكبرى، وهي آفاق ستظل محادثات السلام تتحرك في أنطقتها بصورة متعاكسة.
إن الإرث السياسي لا يصنع لأي شعب استحقاقًا تاريخيًّا.. إن ما يصنع الاستحقاق التاريخي هو الإرث الديني، ومن هنا تبرز قيمة وأهمية تمسك اليهود بفكرة «هيكل سليمان» المرتبط بمدينة القدس.
إذ إن هيكل سليمان هو الذي يصنع الاستحقاق التاريخي للإسرائيليين في فلسطين، ويثبّت جذور وجودهم وهويتهم؛ لذا ظل اليهود بعد كل نكبة يعودون إلى بناء هيكل جديد؛ ليظل شاهدًا على استحقاقهم التاريخي في فلسطين.
ولم يختلف الأمر في الصراع العربي الإسرائيلي، لكنه تحوّل إلى مسألة تتوازى مع هوية القومية اليهودية.
عندما كان يعود اليهود كل مرة إلى فلسطين لإعادة بناء هيكل سليمان بعد تدميره من الإمبراطوريات الغازية لم تكن هناك استحقاقات جديدة أضيفت إلى المكان ووسعت هويته التاريخية والدينية؛ لذلك لم تكن هناك عوائق لبناء الهيكل مرة ثانية وثالثة.
لكن الأمر اختلف بعد العودة الأخيرة لليهود إلى فلسطين.
وسبب الاختلاف هنا الهوية التاريخية والدينية التي أضيفت إلى المكان، والتي شكّلت إعاقة في تكرار ما يفعله اليهود كل مرة عندما يعودون، أي بناء الهيكل.
وهذه الإعاقة تتشكل في «قيمة المكان على هيئته الحالية» في الوجدان العربي والإسلامي الذي يمثل مليارًا وستين مليون نسمة من سكان الكرة، تلك القيمة التي لا يستطيع الإسرائيليون بصورة مباشرة التلاعب بها أو السعي إلى إلغائها؛ بسبب ما قد يحصلون عليه من ثورة غضب من العرب والمسلمين، تهدد وجودهم وأمنهم في فلسطين.
إن «الواقعية الوجدانية في مستوييها التاريخي والديني» التي اصطدم بها الإسرائيليون في فلسطين، والتي تهدد طموحهم السياسي في تكوين دولة إسرائيل الكبرى، كانت العقبة الكبرى في تنفيذ روح طموحهم السياسي (إعادة بناء الهيكل).
وهي عقبة دفعت اليهود إلى تحويل هيكل سليمان إلى «قيمة وجدانية دينية وتاريخية»، تتوازى مع «القيمة الواقعية للمكان» في الوجدان الإسلامي.
وقد استطاعت الحركة الصهيونية بأذرعها الفكرية والثقافية والإعلامية ترسيخ فكرة الهيكل «كعقيدة في الوعي اليهودي والإسرائيلي والمسيحي»؛ لتضمن تكافؤ القيمة الوجدانية على المستويَين التاريخي والديني للهيكل، في مسارها الكمي مع القيمة الوجدانية للأقصى في الموروث الديني والعربي، وبلعبة التوازنات المتكافئة تلك تحولت القدس إلى مصدر للتنازع الديني بين الطرفين.
لكن التاريخ هو الذي ينتصر نهاية المطاف وإن طال زمن الواقعية السياسية.
... ... ....
* من كتاب تحت الطبع بعنوان «العرب وإسرائيل صفقة السلام»