د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
يأخذك هذا الكتاب الذي كتبه أستاذنا محمود الربيعي في نفَس واحد، فأنت تبدأ قراءته ولا تملك التوقف؛ لما هو عليه من تماسك وتسلسل آخذ بعضه بحُجُز بعض، حتى إذا أفضى إلى قراره كانت الخاتمة التي أبكتني «الموت حقّ، والصداقة حقّ، وفقد الصديق الصدوق أليم جدًّا!».
قرأت كثيرًا عن الصداقة والصديق؛ ولكني ظلِلت طوال عمري أعدّ ذلك من المبالغة، وأن معنى الصديق يتسع ويضيق؛ ولكنا نقرأ في كتاب الأستاذ الدكتور محمود الربيعي مثالًا مدهشًا للصداقة بل الحياة المشتركة، فما سطره الأستاذ هو سرد لا تعرف أعنه هو أم عن السعيد بدوي؛ إذ هو عرض لهذه المواقف المشتركة المتداخلة والصحبة القريبة المتصلة، افتتح الكتاب بقوله «صحبت السعيد بدوي أربعة وخمسين عامًا. لقيته أول مرة في لندن في 24 سبتمبر 1960، ولقيته آخر مرة في بيته في الدقي في 2014/3/14، قبل رحيله بيوم واحد».
في الكتاب صورة كاشفة موثقة لجوانب إنسانية من حياة السعيد بدوي، ولجوانب علمية رائعة خلدت اسمه بحقّ. كتاب تمازجت فيه فكِر العقل ولوعة القلب ومرارة الفقد والفراق، تراها في هذا الاحتفال بالتفاصيل الدقيقة المتشبثة بلحظات الحياة المستعيدة سيرورتها.
أول مرة عرفت فيها اسم هذا العالم الكبير يوم صادفت كتابه (مستويات العربية المعاصرة في مصر)، ثم تشرفت بالعمل معه في موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب، فعرفته عن قرب ولمست منه روعة الحنو الأبوي في تشجيعه وثنائه على مشاركتي وعلى ما أهديته له من كتبي التي لا تقف إلى جانب غزارة علمه، ولست أنسى يوم قدمت القاهرة لمراجعة مسودة الموسوعة أنه جاء خصيصى لمقابلتي والترحيب بي، من أجل ذلك لا أجد غريبًا ما وصفه أستاذنا محمود الربيعي بدقة متناهية من جوانب إنسانية السعيد بدوي، يرى الربيعي أن كتاب المستويات فتح مبين في الدراسات اللغوية؛ ولذلك وصف مؤلفه، وهو الخبير بتضاعيف حياته واتجاهات فكره، فقال «هو رجل (المستويات) فكرًا، وعاطفة، وسلوكًا، ولغةً، أرستقراطي الفكر: لا يقع إلا على كل متميز. اشتراكي في اقتسام المعرفة: لا يحجبها عن طالبها أبدًا. واقعي في إدارة دولاب الحياة: قلَّ أن يحتاج إلى مساعدة من أحد، ويساعد الجميع. زاهد في كل المظاهر، وبخاصة في الطعام والملبس. أما روحه فروح متصوف كبير».
ليس من السهل زوي مضمون هذا الكتاب الذي جاء جملة، فليس كغيره من الكتب المنجّمة في فصول أو مطالب؛ لأنه تعبير عن حياة متصلة، ولسنا نعرف من أمور هذا الكتاب سوى أنه نشر في عام 2016 برقم الإيداع 20916 من غير ذكر لناشر أو دار طباعة، وألحقت بالكتاب نصوص تحت عنوان (من تراث السعيد بدوي)، ولا أعلم أمنشور هذا التراث من قبل أم غير منشور، ولكنه جملة من الأفكار التي تزوي فكر السعيد بدوي بنماذج من أقواله وآرائه اللغوية السديدة.
إن كتابة محمود الربيعي عن صحبته للسعيد بدوي ليس وفاءً بحق الصحبة والصداقة فقط بل هو وفاء للعربية في الكشف عن جوانب إنسانية لقطب من أقطابها وعلم من أهم أعلامها، وهو أيضًا وفاء للعربية في شرح مفصل لمعاناة الأعلام في خدمة العربية وسدانتها وتفانيهم في خدمة طلابها، وهذا الكتاب شهادة لجوانب من العمل العلمي في الجامعات المصرية ومجمع الخالدين مجمع اللغة العربية في القاهرة.
رحم الله السعيد بدوي، وأطال عمر أستاذنا محمود الربيعي بالصحة والرضا، وإن كتابه لجدير بالقراءة لما فيه من المتعة والفائدة الجمّة.