د.عبدالله الغذامي
يدرج المصطلح اليوم في الثقافة اللغوية مفهوم مضلل معرفيا وثقافيا ، وهو أن الفصيح هو ما صوبه شخص مات في سالف الزمن ، وكلما كان تاريخ وفاته بعيدا في الماضي زادت حمولة قوله وقوة حجيتها ، ولنجرب عبارة : فلان اعتذر عن حضور الاجتماع ، ويأتي تحريمها من المؤسسة التقليدية اللغوية بحجة أنها تعني أن القول يقتضي أن الشخص حضر ويريد أي يبدي أسفه على الحضور ، ولا تعني أنه قدم اعتذاره وأظهر أنه لن يحضر ، وهذا قياس خاطئ يعتمد على المعنى الحرفي للكلمات ، ويغفل عن المعنى التداولي ، والأخير هو الأصل في حركة أي معنى ، ولو حصرنا العبارات وقيدناها بحرفية معانيها لضاع من لغتنا ما لا يحصى من التعابير من مثل قولنا : لا يجب على الطالب أن يتأخر عن موعد الاختبار ،وهي حرفيا تعني أن الغياب ليس واجبا ، أي نفي وجوب الغياب وسيكون الغياب جائزا بعد أن نفينا عنه الوجوب ، وهذا هو ظاهر الأمر ، ولكن الكل يعي أن الجملة تعني تحريم الغياب ، وهو معنى يدركه القائل والسامع معا ، والذي لا يدركه هو من يتعمد أن يفصفص في الكلمات حتى يقوم بفرض تعنته ، وسأقول إن الجملة صحيحة حسب قيمتها التداولية التي لا يختلف عليها اثنان ، وكم كان سلفنا أذكى وأبصر منا حينما لم يستنكروا على القاضي الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه ، ص 15 حيث وردت الجملة التالية ( وليس يجب إذا رأيتني أمدح محدثا أو أذكر محاسن حضري أن تظن في ...) وهي جملة تعني حرفيا يجب ألا تظن ، وليس كما يزعم أي معترض عليها بالزعم أنها تعني نفي الوجوب وبالتالي سيقولون إنها تعني جواز أن تظن ، ولو فكروا في السياق لأدركوا استحالة ظنهم ولتأكد لهم مقصد الجرجاني كما هي الحال في كل حالة استخدام مماثلة كما جرى ويجري في زمننا هذا وباطراد متصل.
وهنا يأتي مقصد توريقتي هذه ، لأن حجة وجود العبارة تراثيا سيشفع لها عند المتنطعين ، فقط لأن قائلها مات قبلنا بقرون ولم يستدركها عليه جيله ، ولن أقول بهذه الحجة طبعا ، لكن سأقتدي بسلفنا العظيم ، وأكون مثل وعيهم فأجزم أن المعاني تداولية تعتمد على ثنائية المرسل والمرسل إليه ومتى فهما معطى العبارة فهذا هو حجتها . وعلى هذا تسقط كل تعقيدات المتعنتين في دعوى : قل ولا تقل ، المبنية على أن الصواب هو ما نطقه أو أقره شخص ما توفي قبلنا بمدة ، وكلما ابتعد تاريخ وفاته صار أكثر قوة في اتخاذه حجة يسقط معا كل فصيح حديث ، وكأننا نغلق لغتنا ونحنطها بعيدا عن هواء الحياة ونسمتها المتجددة .