صدر لمعالي الدكتور بكري بن معتوق عساس مدير جامعة أم القرى، كتاب بعنوان: «إلا أن يشاء الله»، في طبعة أولى 2017م، وما دفعني إلى استعراض الكتاب إلى جانب إثارة العنوان التي تشي بقاعدة إيمانية راسخة - رغبتي في استعراض تجربة إنسان مخضرم عاش فترة زمنية متدرجًا في المناصب الرسمية، كان آخرها إدارة جامعة عريقة، ويهدف الكاتب في سرده للوقائع التي مر بها إلى استقاء التجربة، واستيعاب النجاحات، وفهم التحديات والإحباطات، والاستزادة المعرفية من مسيرة الغير.
الأسلوب الذي اتبعه الكاتب سلس وبسيط، وممتع، وأكثر ما يجذب إليه دقة العرض والإكثار من الاستشهادات والقصص التي تشي بالخبرة وتنضح بخلاصة التجربة.
عنوان الكتاب
في عنوان الكتاب (إلا أن يشاء الله) إشارة لا تخطئها عين إلى رهن كل التجارب والنجاحات بمشيئة الله، والكتاب لم يخرج في جميع مقالاته عن هذا المعنى.
يبدأ الكاتب بدافع التأليف وهو خبرته التي امتدت أكثر من خمسين عامًا ما بين طالب ومبتعث وأستاذ جامعي حتى وصوله إلى مدير جامعة، وعندما تأمل خبراته التي كوَّنها في رحلته تلك وجدها تندرج تحت مفهوم الآية القرآنية (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين)، نافيًا عن نفسه أي ترويج أو دعاية للنفس، وإنما بهدف التحديث بنعمة الله سعيًا لنشر التجربة وتقديم المعلومة والنفع للقارئ، والكتاب مجموعة مقالات بعدها نشر متفرقًا وبعضها لم ينشر، داعيًا الله أن ينفع به.
في المقال الذي عنونه بـ(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) يؤكد الكاتب على أن الأرزاق موضوعة قبل الميلاد، وأن الأمة لا تنفع ولا تضر إلا بأمر الله، ولا أحد يعلم أين الخير، ولربما اجتهد الإنسان فلم ينجح، ولما سلم أمره إلى الله وُفق فيما كان يستصعبه، قاصًّا تجربة شخصية له حينما تخرج أول على دفعته، وتقدم للإعادة ولم يظفر بها، ترك الأمر وقال: لعله خير، فإذا بجامعة الملك عبد العزيز تطلبه معيدًا. أما في المقال التالي (قنبلة الغش النووية) فبدأه بقصة عن أستاذ جامعي، كتب رسالة لطلابه بأن تدمير الأمة يحتاج إلى السماح بالغش، فالغش كما يرى الكاتب ليس مخالفة وإنما هو خيانة مركبة، ذاكرًا عددًا من تجاربه الشخصية مع طلاب حاولوا الغش، ذاكرًا أن الأمم الحية تحرص على سلامة تعليمها، وأن محاربة الغش في السياق التعليمي مسؤولية الجميع.
في (المدرسة وبناء الشخصية) يؤسس الكاتب إلى مفهوم حديث للمدرسة، فهي ليست موضع تلقي المعلومة، وإنما هي بيئة متكاملة لتكوين الشخصية، والعطاء، والنبوغ، معرِّجًا على تجربة شخصية حين مثل في مسرحية دور طالب فقير يتفوق بعد مساعدته والده، وهو ما تحقق في الواقع، منتهيًا بأن المدرسة هي موضع التربية المتكاملة، وتنمية الإبداع.
وقد خصص الكاتب مقال وجداني يستحق التأمل للبر بالوالدين تحت عنوان (وبالوالدين إحسانًا) قاصًّا رؤيته لشاب يحمل أباه العجوز، وكان ذلك العجوز شابًّا يحمل والده من قبل، وتجربة أخرى عن رجل كان يضرب أباه، فصار يشكو من أن ابنه يضربه، إن صورة مستقبل الشباب مرهونة بالتعامل مع الوالدين، فـ(بر الوالدين) أصل من أصول التربية والتعليم لا يجوز التفريط فيه.
وعبر مقالين متتاليين (قامات تربوية 1) و(قامات تربوية 2) يبدأ الكاتب في التعرض لقامات تربوية عظيمة، مثل أبي الحسن الكسائي، المؤدب لابني هارون الرشيد، اللذين كانا يتسابقان في حمل نعليه، ثم يذكر الكاتب طائفة من الأساتذة الذين درَّسوه في مراحل التعليم المختلفة، فمنهم د. عبد العزيز خوجة، ومنهم د. أحمد عبد الوهاب خليل، والدكتور عبد الله الهلباوي ود. علي بكر الكنوي، ود. عصام الحسيني، معددًا صفاتهم الطيبة، وعددًا من مواقفهم الطيبة معه، جاعلاً من هذين المقالين شهادة بأن الأجيال لا تنسى، وبأن التعليم الحق يبقى أثره، وإن ارتحل صاحبه.
وفي (أكثر من مدرس) ينوه الكاتب إلى أن الأستاذ ليس مجرد مدرس دوره تلقين المعلومة، عارضًا من ذاكرته مواقف لأساتذة عطروا حياته، فمنهم من مزج العلم بالقيمة ومنهم من تحول إلى رمز معرفي، داعيًا كل معلم إلى أن يصير أستاذًا حقيقيًّا يسهم في تكوين الطالب.
وفي (المعلم وحسن الأثر) يسرد فيه المؤلف قصة عن أستاذ رأى في وجه أحد طلابه أكثر من مجرد شقي، ليصبح الطالب ستيفن هوكينج أحد عباقرة العالم، فإيمان الطالب بمعلمه وممارسته تأثيره الإيجابي هو الهدف من هذا كله.
وفي جرأة وتحت عنوان (أمة في خطر)، يتعرض الكاتب للمتناقضة التي تجعل المجتمع يقدر ويحترم الطبيب والمهندس ولا يبالي بالمعلم، فالنوابغ أصبحوا يتوجهون إلى الكليات الطبية والهندسية، وأصبحت الكليات النظرية موئلاً للكسالى، مما أدى لضعف مخرجات التعليم العام، عارضًا تجارب اليابان وسنغافورة في مواجهة هذا المفهوم.
(الجامعات ورؤية 2030)، يقارن تحت هذا العنوان بين رؤية ماليزيا 2020 ورؤية المملكة 2030 معلنًا أن المملكة لا تقلد أحدًا، مؤكدًا أن رؤية المملكة 2030 تميزت بالطموح الذي جعل الأمير الشاب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله-، يرسخ الأسس لمستقبل مختلف، شارحًا عبر مسارات ثلاثة بأن الجامعة جديرة بأن تكون ذات إسهام فعال في العمل نحو المستقبل.
في (مجتمع الرؤية) يبدأ الكاتب بعرض حادثة له حين سأله صديقه الماليزي عن تخطيطه لمستقبل ابنه الذي في الرابعة، معلنًا أنه اختار (الماليزي) لابنه تخصصًا يبدأ في دراسته منذ السادسة، رابطًا بين هذا التفكير ورؤية 2030، فنحن أبناء دين يحث على المعرفة، فلا بد للمجتمع أن يتفاعل مع المعرفة.
وفي مقال بعنوان (شبابنا والأعمال) يربط بين التعليم والعمل، جاعلاً من نفسه مثالاً على ذلك، وكذلك أهل مكة الذين يغتنمون موسم الحج في خدمة ضيف الرحمن والمكسب أيضًا، قاصدًا أن يعمل الشباب على فرص الكسب للقضاء على مفهوم 600 ألف عاطل، في بلد يستضيف 12 مليون وافد.
ثم في (رحلة الجامعات السعودية) يلخص الكاتب تاريخ الجامعات السعودية في ثلاثية التلقين إلى التكوين إلى التمكين، منوهًا بمشروع ريادة الأعمال، وقيمته العالية. في (السعودية واقتصاد المعرفة) يشير الكاتب إلى تقرير صادر عن المجلس البريطاني لأبحاث الطاقة بأن آبار النفط بلغت ذروة إنتاجها وفي طريقها للنضوب، مؤكدًا أنه لا بد من الوعي باقتصاد المعرفة وإدراك أهميته، عادًّا عناصر النجاح التي يأتي على رأسها الإرادة السياسية العليا، إضافة إلى إنشاء عديد من الهيئات والمؤسسات، منتهيًا بأن ثمة رصيدًا بشريًا لا يتفق لأي دولة أخرى.. سائلاً عن الإسهام الذي يقدمه كل منا.
أما في عنوان (المجتمع القائم على المعرفة) فإن الكاتب يشير إلى أن السباق المعلوماتي هو المعركة الحقيقية، فالمعرفة أضحت سلعة اقتصادية، مثمنًا برنامج ابتعاث الشباب السعودي إلى أرقى وأدق التخصصات العلمية، تحولاً من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد معرفي.
وتحت عنوان (التعليم عن بعد.. ضرورة) يؤكد الكاتب على ضرورة إعطاء التعليم عن بعد حقه، معددًا تجارب نجحت في ذلك، مؤكدًا أن الجامعات السعودية أصبح فيها عمادات تقوم بهذا العمل.
وفي (جامعات الريادة) يوضح الكاتب أن التوجه الريادي ليس حكرًا على التخصصات العلمية والصناعية والطبية، وإنما يمتد ليشمل التخصصات النظرية مثل الشريعة واللغة والتاريخ والاجتماع وغيرها.
وفي المقال التالي (أهمية البحث العلمي) تعرض الكاتب إلى أن البحث العلمي محور رئيس للتنمية والتقدم في جميع المجالات، ومعنى ذلك أن نصيب الدول النامية 5 في المائة بينما 95 في المائة منها تقوم بها الدول المتقدمة. مؤكدًا أن الدين الحنيف يسعى للبحث والتفكير والإبداع.
وفي مقال (أمة الإبداع والريادة) يتعرض الكاتب لأول روبوت صنعته البشرية، مرجعًا أصوله إلى الحضارة الإسلامية، مثيرًا الحنين إلى هذه الحضارة الساطعة.
وفي المقال (الإخوان رايت.. وبراءة الاختراع)، يحكي عن الأخوين رايت مخترعي الطائرة، حيث لم يستطيعا تسجيل براءة الاختراع إلا بعد سنتين من الجهد والمشقة، متسائلاً في نهاية المقال: ما الذي كان سيحدث لهما لو احتضنا في مركز للريادة أو وادٍ للتقنية.
وفي سلسلة (ذكريات مبتعث) وهي مجموعة من المقالات (12 مقالاً متتالية) يسرد الكاتب طائفة من ذكرياته مع الابتعاث مشيرًا إلى رؤية المجتمعات الغربية للمبتعث، ومواقف إيجابية وسلبية، وهموم يشارك بها القارئ.
وفي مقال بعنوان (جيل الزمن الجميل) ينعى الكاتب الذكريات التي تمثل القيمة الأخلاقية والأصول التي يرجع لها الناس متأسيًا على هذا الماضي الجميل.
(العقول الثلاثة) يقسم الكاتب العقول على أقسام ثلاثة تبعًا لحديث د. عبدالله العثمان، فعقل عظيم يناقش الفكرة، وعقل متوسط يناقش الحدث، وعقل صغير يناقش الأشخاص، مثمنًا هذا الفهم حاثًّا على اعتماده.
منهيًا مقالاته بمقال بعنوان (بناء الأبناء خير من البناء لهم) فيحرص الكاتب على التأكيد على مفهوم بناء الوعي للأبناء وليس بناء العقار أو توريث الأرض.
المميزات العلمية للكتاب والقيمة المضافة له:
الكتاب يعد خريطة من خبرة خالصة لرجل دولة ذي رؤية ثاقبة بذل الكثير من الجهد من أجل الجامعة التي يقودها ريادية ذات سمعة علمية مرموقة، قادرة على توظيف برامجها العلمية والتطبيقية لتلبية احتياجات المجتمع الحالية، وهو إلى جانب ذلك يحوي الكتاب في بعض مقالاته عددًا من الإشارات والإحصاءات ونتائج الدراسات النافعة، كما يحوي عددًا من القصص التي ترفع الوعي، وتزيد اليقين، وتشي بعاقبة العمل، إضافة إلى أن الكتاب ثري بالمعلومات والتوثيق والتجربة والخبرة.
هذا الكتاب يعد بداية انفتاح للوعي والتطلع إلى تجاوز أسوار الجامعة إلى سوق العمل، ودافعًا قويًا لدى شباب الوطن للانخراط في خدمة المجتمع والوطن.
... ... ...
بطاقة الكتاب كتاب (إلا أن يشاء الله)
تأليف: بكري معتوق جساس
** **
د. أسامة بن غازي المدني - أستاذ الإعلام الجديد