في الفن السريالي جموح وفنتازيا خيالية، تستدرجك أحياناً إلى الدهشة، وتارة إلى التعجب حين لا تفقه في فنه شيئاً بينما هي عقول تعيش في المخيلة المحترفة؛ فتظل الأشياء طلاسم جامدة للعيان، لا يفك رموزها سوى الناقد الحاذق في صنعته؛ فتستبين لك الأمور قطعة قطعة كأحجية المكعبات الملونة حين يبرع فيها البعض وأنت تنظر إليه فاغراً فاك، لا تملك إلا التصفيق، وهذا هو الإبداع والاستمتاع.
ما أجمل الناقد حين يعطي نفسه فسحة من المكان والزمان؛ ليفرغ ما في جعبته من خبرات السنين والأيام! والقراءة المستفيضة بعيون ثاقبة وقلم يقطر من مداده روح تنبض بحروف لم يقبرها الاحتضار يوماً ما.
أبحرت بشراعي بمجداف فيه من القوة والضعف ما يقلقني أن أغوص في أعماق - أستغفر الله أن أقرب من شاطئه دون أعماقه - رجل في نفسه من المخيلة الشيء الكثير، لم يطلعنا عليها، وفيه من جمال الأسلوب ما يمتعنا به! وعنده من سلاح النقد ما يستطيع أن يخوض به معارك يخرج منها منتصراً! كنت في رحلة قصيرة مع الأستاذ الأديب محمد الحرز، وهي رحلة أشبه بالنزهة الجميلة في حديقة غناء صغيرة من حدائقه المتعددة الورافة الظلال التي لا يتكلف في تزويقها والعناية بها! نعم، هكذا شأن الناقد المتفحص المتميز دائماً؛ فهو يقصد حاجته دون عناء حتى تكون في أحسن هيئة ومكان! (ما لم تقله المخيلة وتستنطقه اللغة، سيرة التحفيز والاشتباك) كتاب يقع في مائة وثمانية وعشرين ورقة من القطع المتوسط، ممتع وجميل كصاحبه، خفيف في مادته الغنية وأسلوبه الأخاذ بحيث ينتقل معك من دوحة إلى أخرى عبر نماذج مختلفة من الأدب والفن، يتخللها رسائل، يود فيها الكاتب أن تصل إلى نماذج من الكتّاب كنصائح ودروس وتجارب! وإن كان العنوان طويلاً بعض الشيء إلا أني أعتقد أن الأستاذ محمد أراد كل قطعة فيه أن تعني شيئاً منفرداً بنفسه كخاصة نموذجية.
لا شك أنّ المخيلة لأصحاب الآداب والفنون بشكل عام مهمة جداً، بل تعتبر رأس حربة لكل عمل مبدع، فالمخيلة جزء من الأحلام العارية التي تتشكل دون غطاء، سواء كانت وردية أو رمادية، وهي التي ترسم الخطوط العريضة للعمل المتميز، ولكنها صورة من وراء الحجب للعقل الباطني الذي تختبئ وراءه حكايات تتجاوز مقص الرقيب الذاتي، قد تكون حقيقية، وقد تكون من نسج الخيال، واستنباطها واستخراجها ليس بالسهولة بمكان؛ فهي تحتاج إلى خبرة وتجربة وعمل دؤوب ودربة يستمر عليها الكاتب حتى يظفر بنتيجة مقاربة أو صحيحة لما يرمي إليه المتخيل؛ فهي عبارة عن نص لم يُنقّح بعد، وأحجيات تتشكل عبر خيوط يربطها الناقد المحترف! هكذا كان الأستاذ محمد الحرز مع نماذجه التي طرحها للقارئ حين بدأها بعمل الناقد، وليس الكاتب والشاعر، كمداخلة فيها من الانقسامات في بناء العمل الأدبي ما يجعله مقيداً بسلوكيات المجتمع التقليدية، وعدم الجنوح إلى آفاق أرحب تستدعي فيه المخيلة أنماطاً جديدة، يتطور على أثرها العمل الأدبي.
الأستاذ محمد الحرز من خلال استعراضه نماذج أدبية متنوعة في خصائصها وأساليبها ونمطها، والتأثيرات الثقافية المصاحبة للعمل الأدبي حيث أراد أن يغوص في أعماق تلك النماذج كعملية نقدية فسيولوجية للمؤلف، تتصدر (الأنا) فيها المشهد التخيلي، ثم علاقة ذلك بالمجتمع وسسيولوجيا المجتمع، بما فيها العادات والتقاليد والأعراف حتى يصل إلى نقطة العمق، وهي ماذا يريد الكاتب أن يصل إليه؟! وما هي المعوقات التي جعلته يحجم عن المزيد من التفاصيل؟! ثم يطرح الإجابة بعد تحليل سيكولوجي مختصر للمخيلة مع التحفيز والاشتباك! وهذه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأيديولوجية المجتمع؛ لذلك استعان في تحليله لتلك الأعمال ببعض الدراسات التحليلية النقدية لبعض النقاد! وهذه جودة في الدراسات النقدية المحكّمة! ولا شك أن اختيار تلك الأعمال كان متفاوتاً من ناحية الشهرة للروائي والشاعر والعمل نفسه أيضاً، وهذا يضفي للحكم مصداقية متميزة! هنا فقط جعل الحرز تلك النماذج تأخذ قسطاً من النَفَس بحيث تستنشق المخيلة نوعاً من الأوكسجين الذي يعيدها جذعة دون أن تختنق بكربون الشك والريبة لدى القارئ! أضاف الأستاذ الحرز مع ذلك كله الرسم والترجمة، وهذه كانت نقطة إضافية ممتعة؛ لأن الدراسات النقدية في هذه إن لم تكن شحيحة فهي بسيطة جداً ومنفصلة عن الآداب، ودمجها مع الأعمال الروائية والشعرية كفن أدبي يعطيها زخماً رائعاً للتوهج فيما بعد في أعمال أخرى منتَظرة!
** **
- زياد بن حمد السبيت