لم أملك، وأنا أقلب صفحات من تاريخ الموريسكيين، إلا الاستسلام للذاكرة وهي تعود بي بضع سنين حين نفضت مدينة غرناطة الإسبانية غبار التاريخ عن حدث أليم تعاقبت عليه أربعة قرون كاملة. في العام 1492م، لم يكن بيد أبي عبدالله الصغير إلا أن يتنازل عن مملكته لوارث غير بشرعي؛ عدو طالما أثخن ذاكرتها خوفًا وألمًا وملأ صفحاتها الوردية بحديث السيف والدم.
في العام 2009م أفاقت غرناطة لتطوي الصفحة الأربعمئة من مأساة الموريسكيين، ولتعيد رواية فصول من البؤس والمقاومة المزدوجة؛ مقاومة الموت ومقاومة الحياة. إنها الدعوى المعلقة في تاريخ إسبانيا المسيحية منذ أن أصدر فيليبي الثالث مرسوم الطرد بعد تهافت الحلول واندثار الوسائل، فالذاكرة ندية، والأمل حي، والأجساد مسكونة بالروح الأندلسية؛ الروح الخالدة. إنه الرجاء الذي حمل المنفيين على أن يوصدوا منازلهم برفق ويدسوا مفاتيحها في موضع الحرز، تمامًا كما يفعل المسافر الذي لا يخامره شك في أوبته طال الزمان أو قصر.
عند هذا الحد لم ينته الأمر؛ فقد اختار كثير من الموريسكيين البقاء، وربما انزاحوا عن محيطهم المتوتر إلى آخر متاخم أو بعيد، أو بين بين، دون أن تثوي في حناياهم أطياف الماضي الجميل وذكرياته. ومع توالي الأجيال لم يعد من الممكن في عجلة الحياة، إلا أن يذوبوا وتتلاشى شيئًا فشيئًا مظاهر الحنين في نفوسهم وعقولهم.
إذا عدنا للوراء قليلًا، على امتداد القرن السادس عشر، يمكن ملاحظة الأحداث التي لا زمت مشروع طمس الهوية وكيف عاونت الثورات الموريسكية على تسارعها وحدتها. لم تكن نصوص معاهدة تسليم غرناطة وهي تؤكد للمسلمين ضمانة دينهم ولغتهم واستقلالية قضائهم وأحكامهم وحرية عاداتهم وملابسهم؛ كافية للحيلولة دون انبعاث مرسوم غادر يتركهم أمام خيارين: التحول الديني أو التعقب، وما كاد القرن الخامس عشر يتوارى ويطل السادس عشر، حتى نالت النيران من آلاف المخطوطات العربية، لتدفع غرناطة ضريبة الجهل والتعصب من صميم إرثها الثقافي. بعد ذلك بقليل صيغ مرسوم آخر يرغمهم على التخلي عن الزي الأندلسي، وهو وأن بقي مدة رهن التجميد، فقد أفرز دلالات مهمة تمس الهوية؛ الأمر الذي أصبح معه- بعد ذلك بسنين- من المحرم تداول اللغة العربية، بعد مهلة ثلاث سنوات لتحل اللغة القشتالية محلها رسميًا.
حيال هذه النوازل، كان على الموريسكيين أن يسابقوا الزمن في محاولة لاستصدار مرسوم ينسخ القرارات السابقة، وهو ما باشر حمله الموريسكي فرانثيسكو نونييث مولاي، الذي ابتدر مذكرًا بنصوص معاهدة التسليم، زاعما بأن الزي الذي يرتدونه ليس إسلاميًا بل هو إقليمي شأنه شأن سائر أزياء البلاد، وأن تعلم اللغة القشتالية ليس بالأمر الهين لتحل- في ظرف ثلاث سنين- محل العربية التي بها فتقت ألسنتهم أول مرة، كما أن مسيحيي مصر وغيرها يتحدثون العربية وهم نصارى ولا ضير في ذلك. هكذا نافح مولاي عن الهوية الإسلامية، على الرغم من تظاهره بالمسيحية، لكن مساعيه وكل الموريسكيين لم تسفر عن شيء ذي بال، لتتصل الثورات وتتجدد الاشتباكات منذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، ما اقتضى من المحتل تفريق الثائرين على مناطق الجوار وتعقبهم، إلى أن صدر قرار الطرد النهائي عام 1609.
كثير من الوثائق القديمة التي تعنى بالمسألة الموريسكية (وهي في الغالب إصدارات رسمية)، تؤكد رجعة كثير ممن أُبعدوا، حتى إن بعضهم كان من الجرأة على الخطر بالقدر الذي عاد معه إلى بلدته التي طرد منها. لقد تطلب الأمر من كثير منهم التخفي وسكنى ضواح بعيدة، لا يسهل فيها التعرف عليهم أو تتبعهم.
تخبرنا بعض تلك الوثائق أن من هؤلاء الموريسكيين من اختط لنفسه وجهة أخرى غير أفريقيا والشرق: أن يتناءى بعيدًا باتجاه فرنسا وإيطاليا، ومنها من تحدث عن مدى الارتياح والحرية التي وجدوها في بلاد بعيدة كألمانيا مثلًا، حيث ألفوا المسكن واستلذوا العيشة؛ تلك الأريحية التي افتقدوها في أندلسهم، ولم يجدوا في المغرب الإسلامي ما يعوضهم عنها.
ما هو حقيق بالتذكير، وقد طوينا الذكرى المئوية الرابعة للطرد، أن هناك الكثير حول تاريخ الموريسكيين ما يزال منزويًا في بطون الوثائق القديمة التي تعج بها أراشيف المكتبات الإسبانية.
وفيما يلي نشير إلى إحدى تلك الوثائق التي قبعت طويلًا في أحد الأراشيف الأندلسية. الوثيقة عبارة عن دعوى رفعت إلى محاكم التفتيش ضد أحد الموريسكيين بأنه يمارس طقوسًا إسلامية سرًا، وقد دعمت القضية بـ «تهويمات» قيل أنه كتبها وكان يرددها. المخطوط خرج في دراسة أنجزها أحد الباحثين الإسبان، وقد سعدت بالمشاركة في قراءته وترجمته، وهو محرر بخط عربي رديء وصعب القراءة، وينم عن تواضع لغوي في مستوى كاتبها لا حاجة لتوضيح أسبابه. يقول النص العربي:
« اللهم يا واحد يا أحد يا فرد يا صمد الذي لم يلد ولم يولد، ألهمني وأعلمني دينك الأقوم الذي لا مثله شيء إنك الأعز القاهر فوق عباده الذي لا يفوته شيء.
قرآناً ليس بمخلوق، عربياً لادخلةٌ ولاخرج إلا كلم/كلام ربي الأعز.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله».
آمل أن تستنهض هذه الكلمات همم الباحثين لإثراء المعرفة بهذه الحقبة الحزينة المنسية.
** **
- د. صالح عيظة الزهراني