في كتابه (طبيب عبر الزمن) يرتحل بنا الطبيب الأديب منصور الجابري عبر القرون ليشخص حالات مرضية لشخصيات تاريخية انتهى بهم المرض إلى الموت ليصف أدواءهم وأسباب وفاتهم، معتمدا في ذلك على ما قالوه عن أنفسهم ومستعينا بأدلة وشهود من معاصريهم. الكتاب صادر عن مكتبة العبيكان 1439/2018 في حوالي مائتي صفحة، وهو كتاب علمي طبي أدبي ثقافي، فهو وإن عد من كتب الثقافة الصحية التي توجه للعامة من القراء، فإن الأديب يجد فيه بغيته من متعة السرد الأدبي والتاريخ.
فكرة الكتاب جديدة وطريفة، وظَّف الطبيب الأديب خبراته الطبية في هذا الإصدار المبتكر. يقول المؤلف في مقدمة كتابه: «وقد بذلت وسعي لكي يجمع الكتاب بين متعة الأدب وفائدة التحقيق العلمي، بالإضافة إلى المعلومة الطبية الموثقة التي تساهم في رفع الوعي الصحي بطريقة سلسة ومبتكرة».
رتب المؤلف الشخصيات السبع التي تضمنها كتابه: «على حسب درجة الوثوق من تشخيص المرض». وكان بودي أن يبدأ بالرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ما دام قد خصه بفصل من كتابه ولا يخضعه لأي ترتيب.
يمضي المؤلف على منهج واحد ثابت مع كل شخصية فيبدأ بموجز لحياة العَلَم موضوع البحث مع التركيز على قصة مرضه، ومن ثم ينتقل إلى تحقيق سبب الوفاة، ثم يقدم لنا إضاءات طبية عن المرض، وكيف يحدث وكيف ينتقل وكيف يُقاوَم وكيف يعالج، ثم نصائح طبية وفوائد لتلافي الإصابة بالمرض أو كيفية التعامل معه بعد الإصابة به.
يبدأ المؤلف بالخليفة هارون الرشيد وهو في الرقة وقد رأى مناما أفزعه مما اضطره لإرسال مولاه مسرور على وجه السرعة إلى طبيبه الخاص الملازم له - جبريل بن بختيشوع - حتى إذا حضر حكي له أنه رأى يدا تمتد إليه من تحت سريره بتربة حمراء وقائلا يقول له ثلاثا: «هذه التربة التي تدفن فيها»!
طمأنه الطبيب بأنها أضغاث أحلام.. ومضت الأيام حتى حدث ما كان يخشاه فقد غشي على الخليفة بعد الغداء، وجاء جبريل وفصده ولم يلبث أن أفاق.
عاد الرشيد إلى بغداد وتتابعت أحداث جسام منها غزوة (نقفور) ثم خروج الوليد بن طريف الشاري وقتله ثم نكبة البرامكة، لكن خروج رافع بن ليث في سمرقند وانتصاره على قواد الرشيد واحدا واحدا جعله يقرر الخروج بنفسه. اعترض الطبيب على الرشيد لأنه يرى صحته لا تساعده وقد قارب الخمسين، وضاق الرشيد ذرعا به واستدعى طبيبا فارسيا مرافقا له وجعل ابن بختيشوع في أخريات الجيش.
وصل الرشيد بجيشه إلى طوس واشتدت علته ولم يسعفه طبيبه الفارسي فاستدعى غلامه مسرورا وناوله قارورة فيها عينة من بوله وأمره أن يذهب إلى الطبيب جبريل ويقول له: «هذا بول رجل أطلبه مالا وهو مريض فإن كان به رجاء تركت مالي عنده وإلا استعدت ديني». ورجع مسرور للرشيد بجواب الطبيب: «هذا بول رجل لا يعيش ثلاثة أيام»!.
طلب الرشيد من مسرور شيئا من تربة الأرض فجاء حاسرا عن ذراعه وفي كفه تربة حمراء فلما رآها تذكر رؤياه وقال لجبريل: «ويحك يا جبريل هذه والله الكف التي رأيت، والتربة الحمراء التي رأيت»!. وأمر بحفر قبره.
ويمضي المؤلف في تحقيق سبب الوفاة ليثبت لنا بأن ما يعانيه الرشيد هو داء السكري بدليل تلك الإغماءات التي كانت تنتابه بعد كل وجبة دسمة، وإلى قول الرشيد عن نفسه في أخريات حياته: «آكل الشيء بعد الشيء لئلا يثقل الطعام عليَّ فيمرضني»، ثم توقفه عن الحج والغزو قبل خمس سنوات من وفاته لما يعانيه من المرض، ولا يُغفل فحص جبريل لعينة البول بل يعده أقوى الأدلة.
ثم يضيف إضاءة طبية عن مرض السكري وعلاجه، وإرشادات طبية للوقاية منه ثم كيفية التعامل معه. ويختم الفصل بالحديث عن الرؤيا وتعبيرها.
ما أوردتُ أعلاه نموذج يوضح كيف تناول المؤلف شخصيات كتابه، وأكتفي به لأن المجال لا يتسع لسرد كل قصة، وسأحصر حديثي فيما تبقى من المقال على تشخيص المؤلف لأمراض شخصياته.
في الفصل الثاني يروي قصة المتنبي فيتحدث عن نشأته في أسرة فقيرة رئيسها أبوه عبدان السقاء يعيره أطفال الحي به فيزداد مهانة وذلة رغم محاولة جدته تسليته بأنه ابن الحسب والنسب. ويجعل المؤلف من عقدة الفقر، وعقدة الاحتقار، وعقدة التسلط متلازمة يسميها (متلازمة المتنبي). ويفسر على أساسها سلوك المتنبي طوال حياته في البحث عن المال ثم عن التقدير ثم السلطة.
وينتقل بعد ذلك للحديث عن زائرة المتنبي (الحمى) ويهتدي من خلال وصف المتنبي لها بأنها ناجمة عن مرض الملاريا «فهي حمى لها وقت محدد في البدء والانتهاء، ولها نمط معين في مكان الألم وشدته فهي تصيب العظام والمفاصل».
ويتحدث في إضاءاته الطبية عن الملاريا وطرق الوقاية منها.
وفي الفصل الثالث يورد قصة وفاة أبناء ابن الرومي واحدا تلو الآخر. كان أول المتوفين محمد أوسطهم على إثر نزيف حاد بعد سقوطه من الدرج، وهو المرض نفسه الذي أودى بأخويه. وفي تحقيق سبب الوفاة يرى المؤلف أن سبب النزيف مرض وراثي يدعى النزاف أو (الهيموفيليا).
وفي الفصل الرابع الخاص بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم يؤكد المؤلف أن لوفاته سببا مباشرا وهو الحمى، وسببا آخر غير مباشر هو تأثره بالسم جراء تناوله لحم شاة أهدتها له اليهودية زينب بنت الحارث بعد فتح خيبر في السنة السابعة. ويترجح عند المؤلف أن هذا السم هو الزرنيخ لأنه حتى بعد تخلص الجسم منه تبقى كميات مخزنة في الجلد والشعر والعظام تؤدي إلى إضعاف مناعة الجسم، وهذا الذي جعله – صلى الله عليه وسلم - لا يقاوم إصابته بحمى الملاريا لاحقا.
وفي إضاءاته الطبية يحذر المؤلف من تسرب الزرنيخ لمياه الشرب أو الري، ومن وجود الزرنيخ بكميات كبيرة في التبغ لأن جذور التبغ تمتص الزرنيخ الموجود في قشرة الأرض.
وفي الفصل الخامس يتحدث عن فارس العرب المغوار عامر بن الطفيل وقد مات بالغدة النكافية.
وفي الفصل السادس - وهو الذي خصصه لأبي لهب - يؤكد المؤلف أنه أصيب بقرحة منتنة غائرة تشمئز منها نفوس العرب، وتعرف عندهم بالعدسة وهي نوع من سرطان الجلد الليمفاوي..
وختام الكتاب – الفصل السابع - قصة المخبل السعدي وهو الذي عُمِّر إلى ما يقارب المائة، وضعف بصره حتى أصيب بمرض ازدواجية الرؤية، وهو مرض بصري يؤدي إلى رؤية صورتين لشيء واحد في الوقت ذاته؛ مما يؤدي إلى اختلال التوازن أثناء المشي. وقد توصل المؤلف إلى حقيقة مرض المخبل من قوله عن نفسه:
إذا قال صحبي يا ربيع ألا ترى؟ أرى الشخص كالشخصين وهو قريب
وينبه المؤلف في إضاءاته الطبية إلى ضرورة ملاحظة الأطفال وفحصهم لدى طبيب مختص عندما نراهم يلوون عنقهم أثناء النظر أو يضيقون أعينهم أو يُغطون إحدى العينين لحجب الصورة الثانية.
** **
- سعد عبدالله الغريبي