رواية (صور من حياة ممرضة) للكاتبة: رؤى صبري الصادرة عن دار الكفاح للنشر والتوزيع بالدمام عام 1436هـ.
جميل أن تتماس حياتنا الإبداعية مع حياتنا العملية أو الوظيفية أو المهنية حيث يمتزج الإبداع كفن مع العمل الوظيفي كمهنة.
وهذا يعني لنا بالتالي أن المبدعين (لا يعيشون في بروج عاجية) كما يظن البعض وهم ليسوا بمعزل أبدا عن محيطهم الاجتماعي والعملي وحياتهم الخاصة وإنما هناك منهم من جعل بيئته العملية حقلاً خصباً يستقي منه أفكاره ويوظفها على شكل صور تعكس جانباً حياً ومهماً من حياته الواقعية الفعلية التي يعيشها بشكل يومي خارج المجال الإبداعي إما على هيئة مذكرات أو ما يسمى بالسيرة الذاتية أو سرد حكائي وما شابه ذلك.
وهذا -فعلاً- ما انتهجته الكاتبة رؤى صبري في روايتها (صور من حياة ممرضة) التي بين أيدينا الآن.
تقع هذه الرواية في 184 صفحة من القطع الصغير تناولت خلالها كاتبتها مهنة التمريض بأسلوب أدبي رائع يمزج في شكله ومضمونه فيما بين السرد الحكائي والمذكرات مستعرضة أبرز الجوانب لحياة أصحاب هذه المهنة من الجنسين، وذلك من واقع خبرة الكاتبة وممارستها لهذه المهنة على أرض الواقع المعاش.
خاصة أن هذه المهنة من تلك المهن الإنسانية القائمة أساساً على وجوب معاملة المرضى في المستشفيات والمصحات ومراكز العلاج بمنتهى الإنسانية والمحبة والمودة واللطف وتلمس أهم المشاكل والمصاعب أو تلك المتاعب التي يواجهها المريض أثناء علاجه ومساعدته في حلها قدر الإمكان، وذلك قبل أن تكون هذه المهنة مهنة وظيفية يكتسب مقابلها الموظف قوت يومه.. وقد أشارت الكاتبة إلى هذه النقطة الهامة التي يتمحور حولها موضوع روايتها في الصفحة الخامسة إذ تقول في المقدمة: (قبل عدة سنوات حين أقدمت على كتابة هذه السطور كنت أحمل في جعبتي الصغيرة آمالاً وتطلعات كبيرة لفتاة صغيرة رغبت في تقديم الكثير لوطنها وأبناء جلدتها وما زالت كذلك. ولعل كل ما ذكرته في هذا الكتاب هو مجرد تجربة قارب صغير في بحر متلاطم الأمواج لأن ما سردته في هذا الكتاب هو حكايات وأرجو أن يستفيد منها زميلات وزملاء المستقبل من كل الجنسيات وأنا هنا لا أدين بها أي شخص أو أي جهة وإنما هي تعبير عن مشاعر راودتني وأحببت أن أشارك بها أكبر قدر ممكن من شرائح المجتمع. وفي الحقيقة كل ما أريده وأتمناه من خلاله هو تحقيق رغبتي الصادقة في تحسين أحوال المهنة التي ما زلت أرى وسأظل أرى أنها تستحق الكثير من الممرضين والممرضات ليس فقط لتغطية النقص الكبير في الكادر التمريضي ولكن لتحسين رعاية المرضى بكل صورة ممكنة).
وفي موضع آخر من الرواية يأتي قول الكاتبة في الصفحة رقم (62):
(علاقة الثقة بين الممرضة والمريض جسر لا نهاية له ترتكز أساسياته على قاعدة صلبة عنوانها «مصلحة المريض أولاً».
ومهما كانت الحقيقة بشعة فعلى المريض أن يعرف وعليه أن يقرر وليس من المفترض وجود من يقرر بدلاً عنه ومن حقه أن يجد الاحترام الكافي لمبادئه وأفكاره حتى لو لم تكن صحيحة). انتهى كلامها.
وحول آلية عمل الممرضين والممرضات في مراكز العلاج وما يواجهونه من متاعب وضغوط نفسية تستعرض الكاتبة شيئاً من ذكرياتها في مجال عملها حيث تقول في الصفحة رقم (178):
(أما أصعب ما كنت أراه في العناية المركزة فهو الموت. لقد رأيت الموت كثيراً لكنه لم يكن كالذي رأيته في العناية فكأنما يرتدي لباساً آخر أو يتنكر في صورة غريبة. حتى ذوي المرضى لا يتقبلون موتهم بالعناية بل إني أكاد أرى أصابع الاتهام توجه إلينا غير عالمين بمدى سوء الحالة خاصة أن كثيرا من الناس لا يتقبلون الموت على الرغم من أنه جزء من الحياة. فلو عشنا جميعا تنتفي حينها الحكمة من الخلق وحياتهم ومماتهم وغيرها. فأذكر ذات مرة مريضا يبلغ ثمانية وثمانين عاماً ومر بعدد كبير من العمليات أثناء حياته ونجا منها جميعاً برغم اختلاف علته كل مرة. فهو يعاني مشكلات في القلب والعظام بالإضافة إلى داء السكري والضغط لكنه كان محظوظاً وعاش حياته كما يفترض بل ربما أفضل. وحانت ساعته ولم يتقبل أحد رحيله على الرغم من أنني كنت أرى الألم في عينيه يصرخ رغبة في الرحيل وكأنما كان يترجى ذويه أن يسمحوا له بالرحيل. وفي نهاية الأمر سيتقبل الجميع رحيله فغالباً ما يمر الناس بمراحل معروفة من الحزن قامت المؤلفة (روس إليزابيث كوبلر) بإثباته في كتابها حيث عرضت فيه لأول مرة نموذج (كوبلر روس). وتضمن الكتاب نموذجاً للتعامل مع الموت يستند إلى أبحاث ومقابلات مع أكثر من خمسمائة مريض يحتضر.
ويصف التقرير العملية التي يمر من خلالها الناس أثناء التكيف والتعامل مع الحزن والمأساة وخصوصاً عند التشخيص بمرض عضال أو تجربة لخسارة فادحة). انتهى كلامها.
لقد كان أسلوب الكاتبة خلال عملها هذا كله أكثر من رائع, ولغتها سهلة وواضحة ومباشرة. وكانت طريقة تناولها للأحداث والوقائع وللشخصيات المحورية في روايتها متسلسلا ومرتبا ومنطقياً ويجنح للواقعية التي هي السمة الغالبة على فن كتابة السيرة الذاتية كإحدى السمات البارزة المميزة لهذا الفن عن غيره, مستخدمة لغة أدبية راقية تراوح بين التمريض كعلم وبين الأدب كلغة ذات صبغة فنية تخرج الحقائق العلمية من الجفاف والصرامة والجدية لتقدمها للقارئ المعني بها بقوالب فنية تخاطب وجدانه ومشاعره وإنسانيته. وقد تنوع اسلوبها في طرح مادة روايتها, مستفيدة من فنيات العمل الروائي أو القصصي وأدواته, من تخييل وسرد وحوار, سواء أكان هذا السرد سردا مباشرا على لسان شخصية الراوي التي تمثلها الكاتبة نفسها وهي الشخصية الرئيسية في الرواية, أو ما كان منه بشكل غير مباشر عن طريق الحوار المتبادل بين الشخصيات, وتنوعه بين الحوار الأحادي المنفرد أو ما يعرف في فن القصة والرواية كمصطلح
بـ(المونولوج) أو كان حوارا متبادلا بين عدة شخصيات في آن واحد, أو ما يعرف بـ(الديالوج).
ولولا هذا الجانب الإنساني الفني الذي اتسم به المناخ العام لهذه الرواية لما كانت أكثر من مجرد كتاب عادي قام مؤلفه خلاله باستعراض سيرته الشخصية الذاتية من منظور وظيفي بحت يركز على الموضوعية المتجردة من كل شيء.
** **
- عرض وتحليل/ حمد حميد الرشيدي