أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ستكون لي عودة إن شاء الله تعالى إلى ما أنجزته من (العقل الجمالي)، وكذلك ما أنجزته عن (فلسفة الحب)؛ وإنما أتحدث في هذه السبتية عن ظاهرة حضارية تقية رمزها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود رحمهم الله تعالى الذي يخاطب قومه بلهجتهم العامية المحلية، ويتحدث إليهم وإلى العالم كله بالعقل الحضاري التقي الذي ألـمحت إليه آنفا، وأمامه رحمه الله تعالى ثلاث ركائز أقلقته إلى أن أقر الله عينه باستمتاعه بثمارها في حياته.. الركيزة الأولى: نشر الإسلام على صفائه في المملكة التي بدأت بقريات في نجد ابتداء بالرياض والدرعية وما حولهما وانتهاءا إلى البحر الأحمر، ومشارف الشام والعراق، والخليج العربي، ومشارف اليمن؛ وتلك أول مرة في التاريخ العربي، ثم في التاريخ الإسلامي تتحقق هذه الوحدة في مناطق شاسعة ذات لهجات عامية متباعدة.. ودافع هذه الركيزة ما أقلق الملك عبدالعزيز من تغير بعد عودة الدين إلى صفائه في الامتداد السعودي المبارك على يد المحمدين (محمد بن سعود، ومحمد بن عبدالوهاب رحمهم الله جميعا)؛ إذ بدأت تتسرب عناصر مميتة من التصوف والتدروش، ولم يبق لدى العلماء(؛ وثقلهم في بلدة أشيقر) إلا الفتوى غير الملزمة؛ لأن أمير كل قرية متديك على قومه.
قال أبو عبدالرحمن: ولقد تابعت وتقصيت هموم الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى وإنجازاته في كتابي الذي نشرته مفرقا في الصحافة، وهذبته في كتابي (الملك عبدالعزيز وخصائص الدولة والقائد والدين والرقعة والأمة) الذي أرجو أن يرى النور قريبا إن شاء الله تعالى.. وفي إحدى مقالاتي ذكرت الوثيقة التي أطلعني عليها أخي الدكتور يحيى بن محمود بن جنيد عن صوفي خلوتي نجدي، سفياني فقها.. إلخ؛ وتلك الركيزة جهاد استأنفه عبدالعزيز خلال نصف قرن منذ حكمه بعض القرى إلى الاتساع بالحدود البهيجة باسم (المملكة العربية السعودية).. جهاد من أجل استعادة تاريخ كان يطبق شرع الله على الكبير والصغير بأقصى ما يقدر عليه من مذهب السلف الصالح؛ وهو تاريخ تحن إليه الرعية في المنطقة الوسطى، وفي المناطق التي انفصلت عن سعة الدولة في الدور الأول والثاني باستثناء الزعامات التي أرادت الحكم وحسب، ولم تعبأ بما تحن إليه الرعية من اتحاد على دولة واحدة ذات أمن ورخاء وهيبة ونقاء دين سلفي.
والركيزة الثانية: اهتمام الملك عبدالعزيز بوحدة العالم العربي والإسلامي على دين واحد يقل فيه الاختلاف المؤثر، ويكون من باب الاجتهاد الذي يكون فيه من الله سبحانه وتعالى معذرة وأجر واحد؛ وهو اهتمام يقترن بما نذر له نفسه من الدعوة إلى كيان عربي إسلامي واحد تدافع به الأمة عن نفسها، وتمنع من انتهاك الأغيار حدودها، واستمتاعهم بخيراتها، وتحكمهم في سياستها بزرع عملاء توسع الهوة بين الأمة الواحدة من شوفينية تجزيئية.. إلى ماركسية، إلى اشتراكية كما قالوا معتدلة.. إلى بعثية.. إلى باطنية قذرة.. إلخ .. إلخ؛ فتلك الركيزة جمع بين الدين والسياسة، وإغراء مشكور للأمة العربية والإسلامية بوحدة المملكة العربية السعودية على دين سلفي واحد جعل الملك عبدالعزيز الأمر فيه إلى العلماء المتمكنين في العلم بشرع الله، ومن بينهم اثنان وعشرون عالما كبيرهم الشيخ عبدالله بن عبداللطيف الأزهري، وقاضي الرياض الشيخ صالح آل الشيخ؛ وكان الملك عبدالعزيز لا يتحرك في أسفاره وحروبه إلا بصحبتهم رحمهم الله تعالى.. وأولئك العملاء هم النموذج الأعنف بعد الاستعمار المباشر من دول التحالف التي خانت العرب والمسلمين إذ جعلت جزاء انضمامهم إلى التحالف منحهم الوحدة على دولة واحدة؛ وذلك بعد الحرب العالمية الثانية.. هو الأعنف؛ لأنه استعمار جديد غير مباشر يهدف إلى مسح الهوية العربية الإسلامية؛ وبث العالمين العربي والإسلامي في الرياح؛ وما أقرب الاستعمار المباشر لو حاول الزعيم أن يجعل دين الله دستورا للأمة .
قال أبو عبدالرحمن: وعبدالعزيز لم ينطلق من فراغ في جمعه بين السياسة الشرعية في نطاق رعيته؛ التي هي مصالح مرسلة في تأصيل علماء المسلمين في القرون الثلاثة الأولى الممدوحة، وفي رحاب إغرائه الدول العربية والإسلامية؛ بل كان تلميذا نجيبا لعدد من محترفي السياسة، ولا سيما قادتها في بعض الدول من أمثال مبارك الصباح؛ فكان على وعي محنك عميق بما يجري على الساحة من أطماع الأغيار؛ ولقد نشر الأستاذ منيف الصفوقي بحثا ممتعا بعنوان (الفكر السياسي عند الملك عبدالعزيز/ اتحاد الكلمة، والاستعانة بالعقلاء) في جريدة الحياة في العدد (13998/ في يوم الجمعة 22-3-1422 هـ ص21؛ وقد أفدت منه في مساهماتي بالحديث عن اليوم الوطني منذ عشرين عاما تقريبا؛ ولا سيما ما كتبه ( إدوار بكنج) الأمريكي؛ وإلى لقاء مع هذه التجليات الكريمة في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى, والله المستعان.