زكية إبراهيم الحجي
لا شيء أعظم من فكرة وقد نضجت.. ولا شيء أعظم من فكرة نلمس ثمراتها على أرض الواقع.. وليس مجانباً الصواب من قال «التغييرات المهمة تبدأ بفكرة يقول الفيلسوف الفرنسي «أوغست كونت» وحدها الأفكار تُغيّر العالم.. ولأن الفكر فعل وثمرة الفعل إعماله لهذا فإن محور التغيير للأفضل يكمن في التوثب والسعي للعمل الجاد لتنفيذ كل فكرة تشهد لها ثمرتها بالإيجابية.
إن المتتبع لمسار حضارات الأمم على مر العصور يرى أن هذه الحضارات العظيمة والحس الجمالي الذي يشكل جانباً مهماً من جوانبها لم تكن لتُبنى وتنهض وتبقى تاريخاً يحكي للأجيال المتتابعة قصة نشأتها لولا ما تمتعت وتميزت به كل أمم الحضارات السابقة من قدرة على فهم واقعها بإمكانياته المتواضعة المحدودة .
البناء والفكر مفهومان يصاحبهما التخطيط والتصميم والتنظيم.. يصاحبه العلم في تمكّن والثقافة في إحاطة والوعي في هدى ومن لا يملك فكراً واعياً مدركاً فإن ما يقوم به من أعمال إنما هو انقياد لهوى سواء كان هوى النفس أو هوى الغير وتميزُ البشر بالفكر أمر مشهود منذ أقدم الأزمان لأنه فطرة طبيعية في الإنسان وصورة من صور وعيه بذاته وبما هو خارج عن ذاته.. وحضارة أي مجتمع من المجتمعات لا تُبنى على استيراد حضارة المجتمعات الأخرى، بل تبنى على سواعد ابن المجتمع نفسه بما يمثّله من طاقات الفكر والإبداع مدعوماً بالإمكانات المادية والبيئة الحاضنة التي تشعره بالاهتمام والرعاية وأن أفكاره التي يجسدها على الواقع تجد لها القبول والانتشار ليس في نطاق جغرافي محدد، بل يتعدى تأثيرها وفاعليتها إلى أبعد من النطاق المحدود فجذوة أي حضارة كي تبقى فاعلة ومؤثّرة تستمد عناصر ديمومتها وقوتها من فكر يقود خطوات الإنسان لإدراك الجانب المعنوي والثقافي للحضارة.
ولأن الفكر الإنساني يشكِّل الأساس في البناء الحضاري بجميع مجالاته لذلك يصعب الفصل بين الفكر والمجتمع الفاعل فكلاهما يؤثّر في الآخر ويتفاعل معه.. ولا شك أن سرعة التطور التكنولوجي ما زالت تترك تأثيراتها الفكرية على الإبداع الفكري في المجتمعات المتطورة، فكثيراً ما تظهر وبنفس سرعة الإنجاز التكنولوجي أنماط فكرية جديدة وتلقى قبولاً من المجتمع.. لكن ما ينقص مجتمعنا في ظل ما يجابهنا من تحديات هو وجود مراكز للفكر ينخرط فيها العلماء والخبراء والباحثون وكل من له باع طويل في إستراتيجية التخطيط وعلم الإدارة، فعملية بناء الحضارة ما هي إلا رحلة في عقول الأفراد ثم تبدأ آثار هذه الرحلة تتضح معالمها في الحياة العامة وتحفر مكانها في تاريخ المجتمع.